تاريخ القرية فوق السحب العدد 37

أعجب أبو العيال بعمه حمادي، واستمرأ حديثه، وتعمد التفرد به، والاستزادة من فوائده، فجلسا في صبيحة اليوم الثاني تحت شجرة لوز، وشرع العم حمادي في سرد الأحداث الكبرى التي شهدتها منطقة الريف الأوسط، والغبن الذي لحق أهلها، وأبو العيال منصت كأن على رأسه الطير قلما ينبس بشفة.

*****

جلست وكلي آذان صاغية، وعمي حمادي مثل حمادة الراوية، لم نأبه لأشعة الشمس اللاهبة، مثل ألسنة الحقيقة الغائبة. تحت شجرة لوز منفوضة، ورغبتي لدى عمي حمادي غير مرفوضة، أفهمني أن التاريخ الرسمي ضعيف الشخصية والذاكرة، لا تنصف من تدور عليه الدائرة ومع كل هذا تبقى الأمم سائرة، والحقائق في حديث عمي حاضرة.

ظلمنا التاريخ يا ولدي قديما وحديثا، ولنبدأ بأيام الجهاد البحري، وكانت الزوارق تخرج من بني بوفراح بقيوة وتعترض سفن الأوربيين التي تتجرأ على الاقتراب من الثغور المغربية، الشيء الذي حافظ للمغرب على هيبته، وأخر احتلاله، لكنهم في كتب التاريخ يسموننا قراصنة، أليس هذا ظلماً؟ نحن لم نقطع البحر عندهم، نحن اعترضنا سفنهم الغازية بقوارب خشبية بدائية، ولم نتجاوز مياهنا الإقليمية، هذا من عسف التاريخ يا ولد.، كيف يصير الجلاد ضحية؟ ويجرَّد المناضل من كل أريحية؟

وعُقد مؤتمر الجزيرة الخضراء، وتآمروا على توزيع بلدنا، فقاومنا بزعامة ولد السي عبد الكريم، وأخذنا منهم كل مأخذ، وأَحتفِظُ بذكرى عزيزة ترجعني إلى تلك الأيام المجيدة، كان آخي الأكبر رحمه الله طفلاً في الثالثة عشرة من عمره، وأعلنت التعبئة العامة في كل قبائل الريف الأوسط، فأخذوا أخي هذا إلى التجنيد، وفي صباح أول يوم له في الجبهة خرج يتفقد الأحوال، فإذا به يعثر على بندقية يغلب علي الظن أنها لأحد جنود العدو تخلص منها وأطلق ساقيه للريح قبل أن يظفر به المجاهدون، ورجع أخي إلى المعسكر يجر البندقية لأنه لم يقو على حملها، وفي الطريق ناداه بعض الرجال وأدخلوه إلى خيمة، وأخذوا منه البندقية، ومنحوه شهادة، وطلبوا من أحدهم إرجاعه إلى قريتنا، وعلم أخي فيما بعد أنه داخل خيمة القائد الأعلى ولد السي عبد الكريم، وهو الذي أمر بإعفائه من الخدمة العسكرية، لحداثة سنه، وسلم له مرسوماً بذلك، لطالما افتخرنا به.

انتهت المقاومة، وبدأ الظلم كرة أخرى، اهتم الإسبان-على قلة ماقدموا- بشرق الريف وبغربه، وتعمدوا إهمالنا إمعاناً منهم في الانتقام منا نحن المقاومين، فعشنا على الكفاف والعفاف، ولم نتملق أحداً، ومازلنا إلى اليوم- مهما اشتدت السنون- لا نمد يدنا لأحد، لن تجد البتة متسولاً من أهل البلد.

وجاء الاستقلال، وفرحنا بالانعتاق، وشاركنا في شق طريق الوحدة بين كتامة وتاونات، وبينما نحن في غمرة الانتشاء بوحدة مغربنا الحبيب، إذ وقع مالم يكن في الحسبان. سنتعرض للظلم يا ولدي أبا العيال، لقد صعد الناس إلى الجبال، لقد غُرر بهم…

– نعم يا عمي، إنها تصفية حسابات، بين أحزاب ونقابات، هي التي افتعلت الاضطرابات، فطبق على الريف الأوسط قانون الغابات، وخَبِر الناس من السجون غيابات، وسيمت الحرائر خسفاً واغتصابات، واتهمونا ظلما أننا اتخذنا العصيان ركابات، والظلم أشد مضاضة إن صدر من ذوي القرابات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top