قرر أبو العيال أن يجدد صلة الرحم بأهله في جبال الريف، فركب حافلة ومع خيوط الفجر الأولى نزل في ضواحي تاريست. ليكمل الرحلة إلى قريته، امتطى سيارة ?خطاف? الطريق غير معبد وكله عقبات وحزون، ولأول مرة يشاهد أبو العيال ضبابا وسحباً أسفل الوادي، أما قريته فهي شامخة فوق السحب. المناسبة حفلة عرس حيث التقى بعمه حمادي، وهو رجل طاعن في السن، شاهد على العصر، لم تنل صروف الدهر من حواسه ولا من ذاكرته، مازال مع قلة قليلة من أبناء القرية يعتزلون حفلات الرقص، ويبتعدون ما في وسعهم عن بؤرة النشاط. ولقلة معارف أبي العيال التجأ إلى مجلسهم، عندما يأخد عمي حمادي الكلمة يستأثر بها ساعات، وقلما يقاطع، فلننصت إلى حديثه لأبي العيال.
*****… انظر يا ولدي إلى هؤلاء الشباب، إنهم رجال الغد، ولكن لا يعوّل عليهم، لا يتحملون الأعمال الفلاحية الشاقة، ولا يرغبون في العمل أصلاً، كل حلمهم العبور إلى الضفة الأخرى، وإلى ذلك الحين فإنهم يقضون سحابة يومهم تائهين، يستنشقون الأوكسجين، المعبأ محلياً في كبسولات وغلايين، ويمتطون مركباتهم الفضائية في اتجاه الكواكب البعيدة فراراً من جاذبية الواقع، يعيشون حياة النفي والاغتراب، ولا يشاركوننا إلا في الأعراس والأنخاب، فإذا نُفخ في المزامير، هبوا عن بكرة أبيهم مزودين بالغازات وغيرها من السوائل، والتي يتخذونها للتحليق وسائل، لا خير يا ولدي في قوم يجمعهم مزمار وكل طموحهم غاز أو عقار.
لم تكن هذه حالنا في القديم، كان عيباً أن نتقاعس عن العمل، كنا فقراء ومازلنا، ولكن لا نمد أيدينا استجداءً، تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها.
هذا جيل الانتخابات، أو لنقل ضحايا الانتخابات، الناس هنا لم يتعودوا على الحياة الديمقراطية، وانتخاباتهم تعتمد على الانتماء القبلي أو الولاء للأعيان، انظر إلى هذه الراقصات، أحضرهن صاحب العرس من ضواحي تاونات، لم تكن عندنا شيخات، كان الريفيون يرقصون ?الهيت? وهي رقصة بريئة لا مجون فيها، إلى أن جاءت الانتخابات في أواخر الستينيات، فنجح بعضهم واحتفالا بهذا الفوز استقدم فرقة منهم، وأقام حفلات، حضرتُ واحدةً منها في صوامع القلعة ? طُرِّيس? نزلت من الجبل برفقة رجال القرية، ورأينا المنكر، واستنكرناه بقلوبنا، ولكن سرعان ما تحوَّل الاستنكار إلى تعايش واستحضار، وها نحن اليوم نتنافس في إحضارهن مرغمين بأولادنا وبناتنا، وبخاصة في المواسم التي تجود علينا المناجم بذهب أخضر نبيعه خاما للأعاجم.
أما النتيجة الثانية وعواقبها أوخم، فهي وفاؤهم بوعدهم في الانتخابات، إنهم وعدونا في حال تصويتنا لهم بأن يرخصوا لنا بالتنقيب عن الذهب الأخضر، وفعلا نجحوا ، ووفاءً بوعدهم سمحوا لنا، أوغضوا الطرف عن الحفر والتنقيب، وبعد أن كان التنقيب محصورا في كتامة. اتسع ليمتد من الناظور شرقا، إلى شفشاون غرباً.
تعوَّد شبابنا على اقتصاد الريع، واستنكفوا من العمل في الحقول والربيع، ضجوا من مواسم الحرث والحصاد والدرس، زاعمين أنه تعب دون غلة ولا غرس، صحيح أن قريتنا بلد غير دي زرع، ولكن العمل الدؤوب قد يعيد الحياة للزرع والضرع،
هذا كل ما استفدناه من الانتخابات السابقة، لهو ومجون، وكسل وجنون، الطرق التي بها يتبجَّحون. تعافها الدواب لفرط ما بها من صدوع وحزون.
ومازلنا نحلم بالكهرباء، صحيح أن القرى المحظوظة تم بها الربط، وبقيت قريتنا فوق السحب، لتلتف حولها الأسلاك، وهي سادرة في ظلمة الأفلاك، كأسير في معتقل دون فكاك، أما الماء فأعز من الكبريت الأحمر، ومنابعه صارت على عمق أغور.
في القرية مدرسة يتعلم فيها أولاد وبنات، ولكن يلزمهم بعد الحصول على أولى الشهادات، النزول إلى بني بوفراح لمواصلة التعليم الإعدادي، ثم الصعود إلى تاريست لتهييء شهادة الباكالوريا، وخلال رحلة سيزيف هذه يتوقف الكثيرون، الفتيات من البداية، وقلما يبلغ الذكور خط النهاية.
إننا ياولدي، بعد خمسين سنة من الاستقلال، مازلنا لا نسمع الإذاعة الوطنية أقوى الأجهزة، لا نلتقط سوى إذاعات إسبانيا والجزائر، والشيء نفسه يقال عن التلفزة، فلا قناة أولى ولا ثانية، ولكن المشكل قدحُلَّ بطريقة ثانية، بارك الله في الصحون المقعرة، التي نقلت لنا الأخبار المصورة، وليس المنتخبين ولا الحكومة الموقرة، التقنية أرحم بنا من حكوماتنا، فلنعلق عليها آمالنا، وهي القمينة بتوفير المياه من السحب، وتنشئ خط مواصلات بين السحب، فنتبادل مع العالم الرسائل والكتب، ونبقى دوما شيبا وشباباً نعيش فوق السجب.