ترجَّل الدون كيشوت عن فرسه الأعجف، وقفز سانشو من فوق حماره، وأسرع إلى لجام الروثنانتي ليقود الدابتين إلى فندق بزنقة المقدم، ويعود على عجل، فيخاطبه الفارس آمرا:
– هيا يا سانشو ، علينا باسترداد الدولتنيا من يد القراصنة الأوغاد، ويتيه الفارس مناجيا خليلته:
آه يا حبيبتي! خذلوك، اختطفوك واغتصبوك. ، يا بيضاء، يا حمامة، خربوا فمك النضيد،. قطعوا لسانك المديل، لن أغفرها لهم، سأقتص من الأنذال.
اقتحما خمارة البلد فرشقهما قرصان بنظرة شزرة، تنم عن احتقار القادمين، رد عليه الدون كيشوت بمثلها فأشاح عنهما ببصره، وقال لندمائه:
– تمنيت لو أن كل كأس بدينار، وكل غانية بين عيني أسدا! وبينما الفارس يستجمع أفكاره للرد على القرصان، لكزه سانشو بكوعه مشيرا صوب الراقصة:
– انظر سيدي، إنها هي!
وقف الدون كيشوت مشدوها وهو يستمع إليها تغني:
– أنا المظيليمة. أنا المسيكينة!
أنا ضيعوني، بدينار باعوني..
ذرف الفارس دمعا ساخنا وتسمَّر في مكانه وسط القاعة وخاطبها متحديا عصابة القراصنة:
– لا يا حمامتي ! لن نتخلى عنك، لن نبيعك بدينار ولا بدولار، سأحررك، سأستعين بسيدي المنظري والقاضي عياض، وسيدي الصعيدي، وبجابر، وخديجة وغيره . لن أتركك نسيا منسيا تخدمين على الكبر شداة الفسق والفجور، وتوزعين السجائر المحشوة والخمور .
شرد الفارس مسترجعا ماضيه يوم كانت الحمامة في العنفوان من كل شيء : إيه حمامتي ! أتذكرين الأيام الخوالي؟ أتذكرين يوم كنت في الأعالي؟إيه أخت بيروت ! أين الصحف؟ أين المطابع يا معشوقة أمين الريحاني، يا أثيرة شكيب أرسلان، وكل العربان، من نجد إلي يمان، إلى مصر فتطوان، يا حبيبة نزار قباني، يا محسودة الغواني.
لكن الإعجاب وحده لا يكفي، لا، لا ! لن أسمح بهذا ياسانشو، سأطلب المنظري، لقد تخرج على يديه أفواج من حملة الأقلام وصاروا من الأعلام، واشتغل بعضهم بالإعلام . ورقي المنظري من مجرد مدرسة إلى إعدادية كمؤسسة .
وفي طريقهما إلى سيدي المنظري صادفا القاضي عياضا، فبادره الفارس قائلا:
– كيف أهملت الحمامة يا قاضي سبتة؟
أتخلى عنها مريدوك؟ ألم يتداركوا أمهم؟
رد عليه القاضي خجولا:
– بلى، تداركها الأبرار منهم، فهدأوا من روعها وأفسحوا لها طرف الأمل، لكنهم لم يقووا على استرجاع جمالها الآسر، ولم يقدروا على استعادة شبابها الناضر، وما تمكنوا من تكسير سيوف القراصنة البواتر، لا تتهمهم بالعقوق، لا تطالبهم بالحقوق، فليس بالإمكان أفضل مما كان، ولا يصلح العطار ما أفسده الدهر، الصبا ولى وكثرت التجاعيد، ولم تعد المساحيق قمينة بستر الأخاديد.
ودع الفارس عياضا، وكأن في قلبه أمراضا. وانصرف لا يلوي على شيء،. فلم يشعر إلا وهو على مشارف باب الصعيدة، فقرر التعريج على صاحب المقبرة العتيدة.
وجد سيدي الصعيدي، قد هب من مرقده، وانتصب فوق مقعده للنظر في شكوى مدينة الأموات من صخب السكارى والغواة، وعليه -وهو من رجال البلد – أن يبت في النازلة، ويحدو للأحياء القافلة، وكأنما صعق لرؤية دون كيشوت، كمن ضبط في حالة تلبس بثبوت، فارتج عليه وتعتع، والكلام عليه تمنع، وبعد لأي حلت عقدة من لسانه، ورد إليه سالف بيانه، فقال:
– أتذكر يا فارس الزمان، يوما في المدينة كان، كلب برفقة رجل مدلل سكران؟ لقبوه، “ازرع كوان ” أتذكر مجذوبي المدينة؟ كانا وحيدين في المدينة، اقتسما مناطق النفوذ، واختلفت عليهما الوفود، بالله عليك يا دون كيشوت، قل لي كم صادفت في البلد من مخمور؟ وكم بها من معتوه مغمور، ومجنون مقهور، ومستشفى مهجور؟
أما أصحاب النفوذ فهم القراصنة يقتحمون الحدود الآمنة، ويقلقون راحة المسافرة والقاطنة، يعرضون بضاعتهم من الذهب الأصفر، والأبيض منه والأخضر . ويغتنون، ويضيقون على الحمامة الطوق، في غير أدب ولا ذوق، فتضطرب الحمامة، وتقوم القيامة، على المسالمين والعامة، نغصوا علينا كل شيء، يا فارس، كل شيء، أخمدوا لنا كل صوت، نغَّصوا حتى الموت.
عاد الكيخوطي الفارس المنهوك إلى مركز المدينة وقد نال منه العياء كل منال، فوقف أمام زاوية مولاي عبد القادر متأملا متألما:
– إيه عبد القادر، لقد صرت في خبر كان، كان وأخواتها، أمر أمام الزاوية خجولا مطأطأ الرأس كثور عجوز، أو قل كبقرة لاحظ لها من الثورية، لازلت كديدني أصارع طواحين الهواء، أضحك من نفسي، لكنه ضحك كالبكاء، وأتألم وما لجرح بميت إيلام .