يُستعمل لفظ “الحملة” في عاميتنا لتأدية معنى السيل العظيم المفاجئ الذي تضيق عنه الأنهار، ويجرف الزرع والضرع، ولا يخلف إلا الغثاء.
أذكر هذا كلما سمعت أو شاهدت حملة من الحملات كحملات تعقب الهاربين من العدالة، وحملات الوقاية من حوادث السير، وحملات مراقبة الأسعار، وأخيرا حملات التدشينات، ولنكتف بهذه العينة من الحملات ونقف عند كل واحدة :
ففي حملات تعقب الهاربين من العدالة، تعلم حالة الاستنفار عند رجال الأمن، ويقومون بعمليات تمشيط وسط الأحياء الآهلة، ويشحنون سياراتهم بكل من يقع في قبضتهم دون تمييز بين مذنب وبريء، حتى إذا ما تم التحقيق، وجد أن جل المعتقلين، -إن لم نقل كلهم – أبرياء زج بهم قسرا في مكان أعد للمذنبين خاصة، وفي الإمكان تلافي هذا الاعتساف لو تصرف رجال الأمن بطرق عصرية تخلو عن أسباب العصور الوسطي.
خلاصة القول، ان حالة الاستنفار هذه لا داعي لها البتة.
وفي حملات الوقاية من حوادث السير، تجند كل الإمكانيات، وتجند المسؤولين عن السير في كل مكان يتصرفون بصراحة مع المخالفين، فتسحب من بعضهم أحيانا رخص السياقة ويغرم الآخرون، فيقلع الفوضويون من السواق عن ارتكاب المخالفات، ويلتزم أصحاب حافلات النقل العمومي بعدم تجاوز عدد المقاعد المسموح له بها.
لكن، كم تدوم هذه الحملة؟ أسبوعا بالكثير، ثم تعود حليمة إلى عادتها القديمة، وكأن مخالفة القانون قاعدة والالتزام استثناء.
أما كان أجدى لو عبئت إمكانيات مادية وبشرية كافية، وبصورة دائمة؟ فتزاول مهامها بجدية طيلة السنة فيتعود الفوضويون على النظام، ويقلع الجشعون عن تكديس الركاب في حافلاتهم، ويعتني كل سائق بعربته، وتقل الحوادث، وفي رأيي أن الأموال التي تنفق بسخاء على هذه الحملات يمكن أن تصلح بها الطرق، لأن الطرق عندنا تقتل، ويمكن أن ترفع أجور المشرفين على حركة السير كسد للذريعة، ويمكن أخيرا تنصيب مراقبين أكفاء يضربون على يد أصحاب الضمائر الميتة الذين يغضون الطرف عن المخالفات مقابل “هدايا ” لا تستفيد منها الدولة ولا المواطنون، وتكون لهذا التقصير عواقب وخيمة تؤدي بأرواح الناس، وتجعل بلدنا يحطم الرقم القياسي العالمي في حوادث السير.
أما حملات مراقبة الأسعار، فلا نراها إلا في شهر الاستغفار، وكأن الناس لا يكتوون بنار الزيادة في الأسعار وممارسة الاحتكار، إلا في شهر الاستغفار، فتعلن حالة الاستنفار، وينكل بالتجار الصغار، ولا تطال اليد الكبار، وبعد الحملة الأليمة تعود إلى عادتها حليمة .
لِمَ حملات الاستنفار، والحلال بيِّن والحرام بيِّن؟ لِم الحملات على صغار القوم دون كبارهم؟
ولننتقل إلى حملات التدشينات : يبدأ الاستنفار بالطبقات الشعبية التي تستنفر إلى مكان “الحفل ” بالترغيب والترهيب، لتجد هناك أجواقا تشنف الأسماع، ولافتات تشيد بالأوضاع، ويطول الانتظار، ثم يأتي المسؤول في زمرة القوم الكبار، ويضع الحجر، ولا شيء غير الحجر، ويبقى المشروع مجمدا في انتظار، أن يدشن ثانية وثالثة فلا يرى النور -إن رآه- إلا بعد سنين.
لِم كل هذا الاستنفار؟ لم التدشين أساسا؟ أليس بناء المرافق العامة من أوجب واجبات المدشنين؟ يمكن التدشين، ولكن بشرط، وفي حالة واحدة، وهي أن يكون المشروع المزمع انشاؤه سيقام فوق أرض تربعوا بها أو تحملوا الغلاف المالي الذي يتطلبه الإنجاز، وقلما يحدث هذا .
إننا في حاجة إلى حملات محاربة الأمية، وحملات لمحاربة البطالة والأمراض والرشوة والمحسوبية والتزوير والتملص بشرط أن تتوفر لها المصداقية.
تصوروا لو أعلنت حملة من أجل محاربة الأمية ! وتطوع الأغنياء وساعدتهم وسائل الإعلام بالإشهار لهم هذا صاحب المصنع الأكثر رواجا في العالم يساهم في الحملة بمليار، وهذا صاحب المصرف المتضامن معكم يساهم بإثنين، وذاك وذاك وتعبأ الطاقات البشرية، وهي والحمد لله وافرة . تنتظر لتبذل مجهودها الفكري والعضلي مقابل لقمة عيش.
تصوروا لو أعلنت حملة من أجل محاربة البطالة! وتضامن الميسورون مع إخوانهم العاطلين، وتنافس المتنافسون، فوفر هذا مائة منصب قار، ووفر الآخر مئتين، وهلم جرا.
،تجيئ الكاميرا وتنقل ارتسامات المشتغلين الجدد، فلا جرم إذا قالوا:
“كل شيء مليح، والعام زين”.
هذه حلول ممكنة وناجعة للقضاء على آفاتنا وتتسم بالصدق البعيد عن التهويل، أما حملات الاستنفار من أجل القبض على مذنب، أو مراقبة الأسعار، أو الوقاية من حوادث السير أو التدشينات، فتبقى حملات استنفار “ستين فار ” الجنازة كبيرة والميت فار .
أبو أسامة
الاتحاد 1988/9/9