شهادة الناجح المفشّل

لا شيء أشد بعثا للأسى والشعور بالخيبة والمضاضة من أن ترى أخا لك طرد من الشهادة الابتدائية، وآخر من الشهادة الثانوية، وثالثا من قسم الباكالوريا ورابعا مجازا متعطلا.
وهؤلاء جميعا في سن الإنتاج ، شارف أصغرهم العشرين، وتعدى بعضهم الثلاثين، ومازلوا ينتظرون الذين يأتي ولا يأتي.

اجتمعت في جلسة عائلية بالمجاز المتعطل، قضى سنوات عجافاً شداداً في كلية العلوم بالرباط، تخرج بعدها مجازا، تقدم لمباريات المدارس العليا للأساتذة، فلم يوفق وحرر   طلبات عديدة لمؤسسات ومعامل مدليا بشهادته، لعله يظفر بوظيف عندهم، لكنه كان دائما يعود خاوي الوفاض، اقترح عليه بعضهم أن يطلب إعفاءه من الخدمة المدنية، لأن ذلك يُيسر له سبيل الالتحاق بالقطاع الخاص، استعفى الرجل فأعفي بجرة قلم وبأسرع مما كان ينتظر، وليته ما فعل ! فقد سدّت في وجهه الأبواب، بينما التحقت زوجته بالخدمة المدنية، نسيت -والنسيان دواء المهموم – أن أخانا هذا تخرج من كلية العلوم بالإجازة والزوجة، لقد تزوج قرينة له، وبنيا صُروحا من الأمل، وكيف لا وهما المجازان في شعبة الكيمياء؟ما أعز الكيميائيين في بلدنا!

عينت الزوجة في مدينة بعيدة، فاضطرت إلى اكتراء منزل، واضطر هو إلى الحفاظ على مسكنهما الأول لأنه مرتبط بعمل هنا، إذ كان يعمل في ثانوية حرة يتقاضى منها ما يسد به رمقه، وفي الوقت نفسه يطرق أبواب الإدارات بحثا عن عمل قار، خصوصا بعد أن رأى بعض الذين تخرجوا بعده بسنة أو سنتين يجدون منافذ ويسألهم بسذاجة عما انتهجوه من سبل، فيجيبون بأن السر كل السر في فلان أو علان، الذي وقف بجانبهم وقفة حازم، لا لسواد عيونهم. وإنما الخير بالخير.

بقيا على هذه الحال سنتين، أكملت الزوجة، بعدهما الخدمة فتعطلت، وحاولت جادة أن تبحث عن الإدماج في سلك الوظيفة العمومية، لكن “الاجراءات واللوازم المطلوبة كانت فوق طاقتها، فتخلت عن منصبها آسفة، وأضربت عن الخروج من البيت، وأصبحت تؤمن لقولة جدتها “للمرأة خرجتان ” وهاهي على ما هي عليه لمدة تناهز السنة.

أما الزوج، فمازال يبحث في المدارس الحرة عن سويعات لا يتجاوز تعويض الواحد منها -في أحسن الأحوال – خمسة عشر درهما، وناهيك عن التملص والتماطل في أدائها له، أما في العطل، فإن البطالة تميط القناع عن وجهها وتبدو سافرة بشكل فاضح، وصرح لي في إحدى العطل بأنه، وخلافا لما يزعمه العوام من أن “أصحاب الستيلو ” لا يتنازلون عن كبريائهم للعمل في أوراش البناء والطرقات . يقول إنه على استعداد لمثل هذه الأعمال بشرط ألا يكون مستغلا من طرف صاحب العمارة أو المقاولة، ثم يستدرك : نحن المجازين أسوأ حالا من العمال المياومين، لأنه إذا افترضنا أنني استيقظت باكرا، ووقفت في “الموقف ” أتظن أن صاحب العمل سيختارني؟ وأنت تعلم أنه يقيس العامل من فمه ورأسه إلى أخمص قدميه، كمن يستعرض الدواب للاقتناء، وكلهم أقوى مني وأدرى بشؤون المهنة ! لقد نبذونا، تنكرت لنا حكوماتنا ولم يعترف بنا المياومون، فلا نحن من العاملين بفكرهم، ولا نحن بقادرين على مزاحمة العاملين بعضلاتهم، إننا طاقات معطلة، لا تُسمونا عاطلين فهذا خطأ، لأن العاطل من الرجال في اللغة، الخالي من المال والأدب، ونحن إذا عطلنا من المال فقد حلينا بالأدب، فلا تلبسوا الحق بالباطل ! نحن متعطلون بالبناء للفاعل أو -على الأصح معطّلون بالبناء للمفعول، أما المتعطلون حقيقة فعندهم . وراء البحار – أتذكر صديقنا أحمد لقد كنا ندرس معا إلى حدود الشهادة الثانوية، نجحت أنا بتفوق وأخفق هو، فطرد وذهب يضرب في الأرض، وقام برحلة سندبادية طوحت به في شمال أوروبا، فعثر على عمل، وسوى وضعيته قانونيا، وبعد مدة توقف المعمل الذي كان يشغله فصار متعطلا مثلي، ولكن شتان بين متعطل ومعطل، فهو يتقاضي تعويضا عن بطالته يفوق ثلاثة آلاف درهم، بالإضافة إلى التعويضات العائلية والتي تفوق خمسمائة درهم للطفل الواحد، ومساعدات اجتماعية ورعاية طبية ومنافع أخرى.

أما أنا الناجح في الشهادتين والباكالوريا والإجازة، فمازلت أحمل صخرة سيزيف الأثيم، وزوجتي دخلت مقصورة الحريم. قل لي بالله عليك من الناجح منا ومن الفاشل؟! يا حليم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top