ركبت الحافلة من تطوان عند منتصف الليل، واتجهت بنا شرقا بحثا عن “قرية في السحب ” موطن الآباء والأجداد، نزلت مع خيوط الفجر الأولى، وبقيت أنتظر سيارة لمواصلة الرحلة، ركبت سيارة فلاحية من نوع بيجو، الطريق رديء جدا، كأنه أعد أساسا للدواب، ومع ذلك يفاخر به أهل القرية من لا طريق لهم.
وصلنا القرية على الساعة العاشرة صباحاً بعد أن “تسلقت” بنا السيارة مرتفعات كثيرة يكتنفها الضباب، والعجب أن قريتي تحلق شامخة فوق الضباب المتقهقر صوب بطون الأودية.
أثارت انتباهي للوهلة الأولى أصوات طبل هنا وهناك تشبه في دقاتها طبول الهنود الحمر. سألت بغباء عن حكاية الطبول. فعلمت أنها تعاويذ وتراتيل تخرج الكنز من القمقم.
تماديت في غباوتي فأبديت استغرابي وأعلنت استنكاري، لكنهم أفمحموني، وبالحجة أقنعوني، وكان المتكلم باسمهم شيخا حنكته السنون، انفرد بي في حفلة عرس انشغل فيها سكان القرية عنا بالطرب ورقص “الشيخات ” وانفجار المفرقعات :
“انظر يا ولدي، ولست أول المستنكرين، لكن ما باليد حيلة، المهم أننا نأكل ولا نستفتي، بل استفتينا فقيه القرية، فأفتانا بالجواز، . لأن الضرورات تبيح المحظورات، وعلى كل فلو لم يفعل لاستبدلناه بفقيه غيره، ولاتنس أنه يستعمل كورقة رابحة يلوحون بها في الانتخابات، إذ كانوا قبل اكتشاف المناجم يعدوننا بأنهم سيبادرون بمجرد نجاحهم إلى الترخيص لنا بالتنقيب عن الذهب الأخضر، وكان كذلك ولا شيء غير ذلك.
إننا هنا – بحكم انعزالنا يا ولدي – لا نعرف الكثير عما يجري خارج القرية، أقوى أجهزة الراديو لا يلتقط لنا إذاعة الرباط، نستمع فقط لإذاعات إسبانيا والجزائر، ولا نشاهد التلفزيون المغربي، صحيح أنني رأيت أحدهم ينصب هوائيا ضخما، ويضع فيه آنية من الألمنيوم لمشاهدة المغرب، ومع كل هذا تبقى في التلفزة المغربية خشخشة، بخلاف تلفزيون إسبانيا الذي يتمتع بالصفاء ونشاهده بدون هوائي، إننا هنا في قرية السحب لا يهتم بنا أحد، فكيف تود ألا ننبش الكنوز، وفي نبشها أرزاقنا .
لقد عمرت طويلا، وخبرت الحياة في القرية وخارجها . كنت صغيرا عندما هب أهل القرية لرد الاستعمار، وأبلوا البلاء الحسن، كنت يومها صغيرا لدرجة أن الزعيم ولد السيد عبد الكريم شاهدني من داخل خيمته فاستدعاني وأعفاني من التجنيد، لأنني لم أكن أقوى على حمل البندقية .
ودخل الإسبان فعملنا معهم في الجندية وسخرونا في أسوء حرب أهلية عرفتها أوربا، وكانوا يزعمون لنا بأن فرانكو سيلبسنا أحذية من ذهب بمجرد الانتصار على الحُمر، أليس هذا تخديرا؟ الشر بالشر والبادئ أظلم، وبالمناسبة، في هذه الفترة رحل أبوك عن القرية واستقر في المدينة، بينما قطعت أنا وبعض أعمامك البحر فمنهم من قضى نحبه ومنهم من عاد وقدم استقالته مثلي، وأعطوني -عوض الحذاء الذهبي – مائة درهم في أوائل الاستقلال، أما أبوك فإنه أدخلك المدرسة فتعلمت وتوظفت، بينما لا يجد أبناء قريتك -إلى الآن – مدرسة، كيف تحتج علينا وأنت نفسك من المحظوظين!
دخل الاستعمار فازدادت وضعيتنا سوءا، كان ينهب خيراتنا ولا يهتم بنا، لم يفتح طريقا واحدا للقرية، لم نعرف طريقا إلا بعد ثلاثين سنة من الاستقلال.
رحل المستعمر ففرحنا لرحيله، وساهم أبناء قريتي في شق طريق الوحدة (الرابط بين منطقة الحماية الفرنسية ونظيرتها الإسبانية ) وكان أملنا كبيرا في أن تستصلح أرضنا بعائدات الفوسفاط، لكن آمالنا أجهضت، بقينا نعيش على الكفاف، على الإنعاش والتعاون والبطالة .
في أوائل الستينيات فتح باب الهجرة إلى أوربا وهاجر الناس أفواجا، لكن قريتنا لموقعها بين السحب -لم تعلم بالأمر إلا بعد فوات الأوان، فلم يهاجر إلا القلائل، كيف تريدنا أن نقلع عن التنقيب؟ وبفضله تحسنت حالنا، وعرفنا الموقد الغازي والمدفأة والتلفزة، وأشياء أخرى كانت وقفا على بعضهم، بأي منطق تجيز لهم السيارات واللباس الفاخر، وتحرمه علينا؟ لا، لا، ليس عملنا حراما ! وإن كان كذلك فلسنا أعظم إنما من بعض أولئك الذين يقتنون الفيلات والسيارات والأجهزة، من زين لهم هذا؟ إما أن يكونوا قد سددوها دفعة واحدة، أو بالتقسيط، وأحلاهما مر، أتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟ الكثيرون هنا في القرية يستنكرون حرفة المنجميين هذه، ويزاولون حرفة الآباء والأجداد، لكنهم سقطوا في يد من يبيع لهم “القرود ويضحك على أذقانهم، لقد مُنع كل شيء، وصار من العسير العيش بعرق الجبين، فكيف تقول حلالا عليهم، حراما عينا؟ ! صار كل شيء هجينا، هؤلاء شباب القرية ينفرون من العمل، يظلون اليوم كله تائهين، يتزودون بالأوكسجين ويمتطون مركباتهم الفضائية إلى الكواكب البعيدة، لا يعودون إلى الأرض إلا نادراً، همهم الأول توفير الأوكسجين لمواصلة رحلة النفي والاغتراب، لا يشاركوننا حياتنا إلا في الأعراس، فإذا نفخ في المزامير هبوا عن بكرة أبيهم مزودين بالغازات وغيرها من السوائل المساعدة على التحليق . ويشترون المفرقعات من مليلية بزهاء عشرة دراهم للأصبع الواحد ليفجروها في الأعالي . لا خير يا ولدي في قوم يجمعهم مزمار ويفرقهم عقار . انظر إلى هذه الراقصات، . لم يكن للريفيين “شيخات ” كانوا يرقصون “الهيت ” وهي رقصة بريئة لا مجون فيها، إلى أن كانت الانتخابات في أواخر الستينات، فنجح أحدهم، واحتفل بنجاحه فاستقدم فرقة منهن، وأقام حفلا كبيرا في الساحل على شاطئ البحر نزلنا نحن من الجبل، وشاهدنا “الشيخات ” لأول مرة، رأينا المنكر أليس هذا حراما؟ كيف تقول أقلعوا عن الذهب الأخضر؟ لنا أعذارنا ولا عذر لغيرنا، كاد الفقر أن يكون كفرا، اتركونا نجلب العملة الصعبة اتركونا ننتقم من الذين استعمرونا، نحن نجاهد، والجهاد فرض عين وليس حراما .