تصوروا مستجديا يصعد عربات القطار، الواحدة تلو الأخرى، وفي كل عربة يتبرع عليه الركاب بأوراق نقدية من فئة العشرة أو الخمسين درهما وبعضهم يغدق عليه أضعاف هذا بالعملة الصعبة، هذا في اليوم الثاني، وقد سبق له -باعترافه – أن زار أمس هذه العربات، ويفهم ضمنيا أنه لقي مثل حفاوة اليوم.
حدث هذا في محطة طنجة، ليلة الجمعة 9 شتنبر، فقد فوجئ الركاب بشاب يحمل في يسراه جواز سفر، وفي يمناه حفنة أوراق نقدية، وهو يذرف الدموع بغزارة ويشرح للمسافرين نكبته، خلاصتها أنه أبحر أمس إلى الجزيرة الخضراء، لكن الإسبان رفضوا دخوله، ورد على أعقابه، وهو طالب يتوفر على شواهد عليا لم تنفعه في الحصول على عمل في المغرب، لذا يصر -كأمل أخير – على جمع مبلغ محترم يقنع به الإسبان أنه من أبناء الذوات، فيتركونه يعبر إلى أوربا، ولكن – ودائما حسب زعمه – أحدهم قد أهانه واتهمه باختراع أسلوب جديد للتسول، وكبر عليه – وهو الطالب الواعي- أن يلجأ لمثل هذه الخساسة، لولا رغبته الأكيدة في عبور البوغاز بحثا عن المستقبل الذي افتقده في بلده.
من يكون هذا الشاب؟ سؤال يراودني بإلحاح.
لن يكون إلا واحدا من إثنين، إما صادقا في كل أقواله، وعليه فهو أهل لهذا الكرم الحاتمي، “وأهلا وسهلا ومرحبا بزوارنا الأعزاء ” ويكون تضامن إخوانه معه من شيم المغاربة المتضامنين في السراء والضراء، وفي الوقت نفسه صرخة مدوية تستنكر البطالة المثقفة .
وقد يكون مفتريا اختلق الحكاية، وافتعل الإحساس بالضيم، وبكى واستبكى، وعندها يستحق أيضا هذه الخلع السنية، لأنه شاب موهوب فطريا، يستطيع تقمص دور عزيز قوم ذُلَّ . وبالتالي فمكانه على الخشبة، خصوصا وأن مسرح التلفزة عندنا يشكو من عقم مزمن، لن يتخلص منه إلا إذا فتح أبوابه بالمفاتيح السبعة لمثل هذه المواهب، وأطعمها من المائدة التي صارت حكرا على أصحاب الذوق الرفيع.