نزح اليهود الأوائل نحو المغرب قديما ، قبل مجيء الإسلام فرارا من اضطهاد المسيحيين لهم ، فلاقوا أرضا قبلت بإيوائهم ، وصاروا مع الزمن من أهل البلد ، واستقروا في واحات ومدن معروفة ، لكن لم يثبت أنهم استوطنوا بني بوفراح ولا الريف الأوسط عموما .
وكانوا في الأندلس يعيشون مع المسلمين منذ دخول المسلمين إليها ، وتولوا مناصب رفيعة ، لكن تخصصهم كان التجارة ، لهذا كانوا يعبرون من الأندلس وترسو مراكبهم في ميناء بادس الذي كان أكبر وأشهر مراسي المغرب ، لكنهم لم يستقروا في الجزيرة الريفية إلا بعد طردهم مع المسلمين من الأندلس سنة 1492 . ومع ذلك واصلوا اشتغالهم بالتجارة بين العدوتين ، وكانوا صلة وصل بين المسلمين في المغرب والمسيحيين في إسپانيا .وتوسع عمرانهم ، ويبدو أن الجزيرة كانت أكبر مما هي عليه الآن ، وقد يكون ذلك بعوامل المد والجزر أو الترسبات ، ذكر الحسن الوزان ( ليون الأفريقي ، توفي سنة 1554) في كتابه (وصف أفريقيا) أنه كان في جزيرة بادس شارع طويل يقطنه اليهود قبل احتلالها من طرف إسپانيا .
ظل اليهود في هذه الجزيرة يشتغلون كوسطاء تجاريين حتى سنة 1564 ، وهي السنة التي استعمرت فيها إسپانيا هذه الجزيرة ، ففر سكانها من المسلمين واليهود نحو الحواضر المغربية القريبة كتاركيست وسنادة وتاغزوت وبني بوفراح .
اليهود في بني بوفراح
تروج في بني بوفراح حكاية شعبية يرثها الخلف عن السلف ، تقول إن اليهود عندما استجاروا بالبوفراحيين ، طلبوا منهم أن يسمحوا لهم بالإقامة بين ظهرانيهم مقابل خدمات يأنف البوفراحيون القيام بها أو لا يتقنونها، كصنع برادع الدواب ،وأشغال الدباغة والخرازة ، والحدادة، وصنع البسط ، وغيرها .
وهكذا اتفقوا على أن يحظى كل بيت يهودي بحماية رجل بوفراحي مسلم مرموق يضمن لمستجيريه سيرورة تجارتهم ورواج مصنوعاتهم التقليدية .
وكان اليهودي البوفراحي كلما حل موسم الحصاد إلا وطاف على البيادر بحماره المميز ( حمار ضخم ) فيصلح ويصنع للمسلمين أدوات الحصاد ، ويركّب حذوات الدواب ؛ ويتقاضى مقابل خدماته أجرا غير محدد ولا متفق عليه ، ويكون عبارة عن حبوب ( قمح أو شعير) وأعلاف ، بحسب أريحية صاحب البيدر.
كما كان اليهود يصنعون المفروشات ، ويشتغلون بالحدادة فيصنعون المناجل والأقفال والألجمة والسكاكين وسكك المحراث . ومنهم من تخصص في صياغة الفضة والذهب ، كما كانوا يحتكرون الاتجار في مادة السكر الذي يستوردونه من جزيرة بادس المحتلة . ولعل اسم سنيدة الذي يطلق على السكر المسحوق كان من وضعهم ، فهي كلمة إسپانية استوردوها مع البضاعة وعربوها .
وكانوا يعرضون بضاعتهم بإحدى طريقتين : إما بالتنقل على الدواب بين الدواوير كعطارين ، وإما في الأسواق الأسبوعية ، كأربعاء تاركيست وخميس بني بوفراح ، وسبت بني جميل . وكانوا في الغالب يقايضون بضاعتهم ببضاعة أخرى ، من قبيل البيض ، والحبوب ،واللوز ، لندرة النقود آنذاك .كما كان بعض اليهود متخصصا في صناعة المسكرات ، الخمر من العنب ، وماء الحياة من التين ، ويستهلكونها محليا ، ولم يثبت أن شاركهم المسلمون شرب المسكرات للوازع الديني القوي حينذاك.
اليهود خلال أيام الخطابي وبعده .
كان المقاوم محمد عبد الكريم الخطابي قد أبعد اليهود عن السواحل ببضع كيلومترات حتى يأمن جانبهم ، فأسكنهم في قريتي إمداوشن ، والجنانات .ولما انهت المقاومة الريفية واستتب الأمر للإسپان رخصوا لهم بالعودة إلى طريس ، وكان ذلك سنة 1942 عند نهاية الحرب الأهلية الإسپانية وبداية الحرب العالمية ( ويالتشابه التواريخ 1492 و 1942 !).
اندمج هؤلاء اليهود مع الإسپان بشكل غريب ، وتحسنت أحوالهم ومارسوا تجارة الاستيراد والتصدير من ميناء طريس ؛ وتخلوا عن الكلام باللغة العربية والريفية ، وتكلموا بالإسپانية ، ولبسوا اللباس الأوروپي ، بينما بقي المسلمون محافظين على لباسهم التقليدي من جلباب وشامير ، (قد يكون هذا الاسم من مخلفاتهم لأنهم اشتهروا كبزازين وخياطين ).
تغير حال اليهود في طريس وصار من العسير أن تميز اليهودي عن الإسپاني وجها ولسانا ولباسا .ولا بأس من وقفة بسيطة مع تسمية طريس ، اسمها العربي صوامع القلعة ، وهي فعلا قلعة تتوفر على أربعة أبراج شيدت على أعلى قمة تطل على القرية الساحلية ، وسماها الإسپان بلغتهم كواطرو طريس
Cuatro Torres
، واختزل العدد وبقي المعدود .
النزوح الجماعي
في إحدى ليالي سنة 1958 ، وقُبيل نشوب انتفاضة الريف التي ووجهت من طرف المخزن بالحديد والنار ، بات اليهود في بني بوفراح ولم يصبحوا ،وكأن هاتفا هاتفهم محذرا من غضبة المخزن ؛
يقال إنهم حزموا أمتعتهم ورحلوا بحرا إلى سبتة أو تطوان أو طنجة ، ومن هناك تفرقوا ، بعضهم ذهب إلى إسپانيا ، وأمريكا الجنوبية ؛ ويقال ـ وقد يكون صحيحا ـ إنهم هاجروا بقضهم وقضيضهم إلى إسرائيل .