كان المجتمع الريفي عموما محافظا إلى حد التزمت ، ولم يشذ البوفراحيون عن هذه القاعدة ، وبخاصة فيما يتعلق بالمرأة ، فلم يكن يسمح لها بالخروج أو العمل خارج البيت ما لم تدْعُ الضرورة القصوى إلى ذلك ، وكان الميسورون يطبقون مقولة : للمرأة خرجتان ، خرجة من بيت أبيها إلى بيت زوجها ، وخرجة من بيت زوجها إلى المقبرة . والغريب أن النساء عهدئذ كن يغبطن المصونة المحروسة التي يحجبها زوجها عن الأنظار ، ويسمينها ( محجوبة ) . ولعل لجو الحروب يدا في حرص الرجال على إخفاء النساء ، لأن العدو في حال انتصاره قد يظفر بحريم خصمه المنهزم ، لهذا بالغوا في التستر على النساء ، وكان لهم قولة مأثورة : ( اللي بغى يعيش خاصو كلاطة عويشة ، وامرا عميشة ) ومعناها من يريد العيش في الريف فعليه أن يكون مسلحا ببندقية جيدة ، وأن تكون زوجته عمشاء تقتحمها العين .
وتحكى حكاية أسطورية توضح العرف الجاري به العمل في علاقة الرجل بالمرأة ،حتى وهي خطيبته ، بل زوجته قبل الدخول بها . توجد في بني بوفراح ، في مكان قريب من شاطئ طريس القلعة صخرة قائمة تتوفر على فتحتين . تقول الحكاية إن الصخرة كانت ـ أيام الحياء والحشمة ـ كتلة واحدة ، وحدث أن تقابل قربها شاب وشابة وهما مخطوبان وعلى وشك الزواج ، ولم يكن مسموحا لهما أن يلتقيا قبل أن يجمعهما سقف واحد ، فعمدت الفتاة إلى الاختباء خلف الصخرة ، كما اختبأ الفتى من الجهة الأخرى ، وكل واحد منهما ينتظر مرور الآخر بدون إحراج ، لكن الانتظار طال ، ولم يجرؤ أحدهما على الاحتكاك بالثاني . وبقدرة قادر فُتحت في الصخرة ثغرتان متباعدتان ، تسلل كل منهما لِواذا ، دون أن يسأل لماذا ؟هذه أنموذج للعرف السائد في علاقة الرجل بالمرأة .
وتحكى حكاية أخرى أقرب إلى الواقع ، تقول إن رجلا عاقب زوجته بضرب مبرح لأنها ذهبت لكي تسقي من بئر الجماعة ، وتجرأت على غسل رجليها قرب البئر وكشفت عن ساقيها .
لم يكن مسموحا للنساء بمخالطة الرجال ، بل بالخروج أصلا ، إلا لضرورة قصوى كسقي الماء ،أو جلب الحطب من الغابة ، أو جمع الحصيد من الحقول إلى البيدر ( يسمونه النادر ) . وكلما كان مستوى معيشة الأسرة ميسورا ازداد التضييق على المرأة .
في هذا المجتمع المتشدد ـ وياللمفارقة ! ـ ستنشأ ظاهرة الأسواق النسائية ، بمعنى أنه سيسمح لهن بالخروج من منازلهن والذهاب إلى السوق لوحدهن !
سأعتمد في كلامي عن أسواق النساء على البحث القيم الذي نشره الأستاذ عبد الحميد الرايس في العدد الأول من مجلة حوليات الريف لسنة 1998 ، تحت عنوان : سوسيولوجيا الأسواق النسائية بالريف .وسأضيف شروحا أو استطرادات قد تغني البحث .
ظهرت أسواق النساء ـ ترجيحا ـ عند منتصف القرن التاسع عشر في قبيلتي بني ورياغل وتمسمان ، ثم انتقلت الظاهرة إلى بعض القبائل المجاورة ومنها قبيلة بني بوفراح ، وفي مدشر أكني تحديدا .
وظاهرة الأسواق النسائية لا توجد إلا في جبال الريف وفي بلاد سوس دون باقي مناطق المغرب ، ولعل للأمرعلاقة بما ذهبت إليه في الحلقة الأولى من أن سكان بني بوفراح الأولين كانوا من بلاد سوس .
كان مخاض فكرة تأسيس سوق خاصة بالنساء عسيرا ، فقد عارضته طائفة ورحبت به أخرى ، ودخل الفقهاء على الخط بين محلل ومحرّم حسب هوى زعمائهم ؛ وآل الأمر إلى النزاع المسلح ، فنشبت حرب بين الفصيلين دامت سبع سنين اكتوى بنارها كل الريف الأوسط ، وذلك لأن المتحاربين استقطبوا حلفاء وشيعا من القبائل المجاورة بما يسمى في عرفهم باللف ( يجمع على لفوف ). وهناك روايتان في شأن توقف الحرب ، تقول الأولى : إن الشريف مولاي عبد السلام الوزاني هو الذي تدخل وفصل بين الفريقين ؛ وتقول الأخرى ،إنه جيش ( محلة ) السلطان مولاي الحسن الأول .
انتهت الحرب وانتصرت فكرة إنشاء الأسواق النسائية . وأرجّح ـ من بين النظريات الكثيرة ـ حول أسباب ظهور هذه الأسواق ، أن الحاجة الملحة لاستعمال المرأة في القيام بالتسوق بدل الرجل ازدادت بعد تورط الرجال في حروب أهلية صغيرة ، فصار جل الرجال مطلوبين من طرف خصومهم، وحتى المسالم منهم يؤخذ بجريرة أخيه أو ابن عمه ، بينما كان الشهامة الريفية تمنع الرجل من قتل المرأة أو التحرش بها ، فكانت المرأة ورقة رابحة وحمامة سلام بين الإخوة الأعداء .
عندما أتفحص هذه الظاهرة أجد أن الريفيين كانوا أسبق إلى تحرير المرأة من الأوروپيين ، لأن خروج المرأة إلى مزاولة الأعمال غير التقليدية في الريف كان في أواخر القرن التاسع عشر ، بينما بقيت المرأة الأوروپية تنتظر حتى نشوب الحرب العالمية ( 1914 / 1918 ). ولكن الأوروپية انطلقت جادة ، بينما حالت الأعراف دون انطلاق الريفية ، فبقيت دائما محاطة بالأسوار ، في السوق وفي الدار .
جولة في السوق
تشتغل النساء المسنات والأرامل والعوانس بعرض سلعهن من أجل توفير مصدر رزق ، وتقوم الفتيات الشابة باقتناء ما يردنه لهن ولعوائلهن ، وكان يتم البيع عادة بالمقايضة ( تسليم بضاعة مقابل أخرى ) لأن النقود غالبا تكون عند الرجل .
لكن مهمة السوق بالنسبة للشابات لم تكن مقتصرة على التبضع ،بل كان الاجتماع في زوايا السوق لساعات أحلى وأهم بالنسبة للغواني ، حيث يبُحن لبعضهن بالأحلام والأماني ، ولهذا كن يتأنقن ويرتدين أجمل حللهن يوم السوق ، لأنه يوم الاستعراض ، فقد تُعجَب بها المتسوقات ويقترحنها عروسا لفارس الأحلام . وكما يكون السوق مصدر سعادة لبعضهن قد يكون شؤما على أخريات ؛ فمعلوم أن طلب اليد عهدئذ يتم عن طريق الوالدين وزعماء الجماعة ، ولكل هؤلاء مصالح في المصاهرة ،بغض النظر عن حظ المخطوبة من الجمال، ولا يتعرف العريس على زوجته إلا بعد الزواج ، وقد يجد نفسه أمام امرأة لا ترضيه . فكانت فتيات العائلة يقمن بدور الفاحصات المتلصصات ، وقد تنفع شهادتهن في فسخ الخطوبة عندما ينكشف عيب الخطيبة الخِِلقي أو الخُلقي .