كلمة في حق عبد الله راجع

كتب الأستاذ إدريس اعفارة  على الشبكة العنكبوتية كلمة مطولة حول الشاعر عبد الله راجع جاء فيها:  يعتبر المرحوم عبد الله راجع ممن بصموا الحياة الثقافية في الفقيه بن صالح ، وأعلنوا عن ظهور جيل من المستنيرين ، بعضهم من الكتّاب المحررين، وبعضهم من شداة الأدب المتذوقين ، وقد كان لي شرف معايشة هذه التجربة وكسب ثقة وصداقة المرحوم الذي كان متحفظا بعض الشيء في انفتاحه على الآخرين ، لكنه اطمأن لي وأهداني نسخة من باكورة دواوينه الموسوم بالهجرة إلى المدن السفلى واستضافني في منزل والده بحي اسباتة بالدار البيضاء ، كما زارني في بيتي بالمحمدية .
 
اختاره الله إلى جواره مبكرا ، وترك فراغا كبيرا ، وكل ما استطعت فعله هو المشاركة في تأبينه مرتين ، مرة في معرض الكتاب بالدار البيضاء بُعيد وفاته بمداخلة شفوية في إطار حفل التأبين الذي أقامه له اتحاد كتاب المغرب ؛ ثم نشرت كلمة تأبينية في أول عدد من جريدة الناطق سنة 1990 . ويشرفني أن أنقل لكم تلك الكلمة مزيدة ومنقحة ببعض تقنيات التواصل المستجدة حتى يأخذ القارئ فكرة عن الجو الثقافي الذي عشناه في ثانوية الكندي بحضور وازن لشاعرنا الكبير رحمه الله ، أرجو لكم قراءة ممتعة
 
بصمات منسية لعبد الله راجع
 
إذا كان الموت ظاهرة طبيعية يتساوى أمامه جميع الأحياء ، فإن هناك فرقا بين ميتة وأخرى ، وبين ميت وميت ، فمن الأموات من يلفظه التاريخ ويتبخر ، ويبقى أمره إلى الله يوم الحساب ؛ ومن الأموات من يظل حيا في الدنيا تذكّرنا به صدقاته الجارية وعلمه الذي ينتفع به ، ومن هؤلاء صديقنا عبد الله راجع رحمه الله .
 
من الصدف الغريبة أن أنعي رجلين ـ أكن لهما حبا وتقديراـ في ظروف متشابهة كتشابه اسميهما ؛ فقد كنت في مدريد صيف 1989 ، وزرت الدكتور محمود علي مكي مدير المعهد المصري هناك ، فسألني عن الأستاذ عبد الله كنون ،فنعيته له ، واستغربنا معا كيف أنه توفي يوم تاسع يوليوز 1989 ، وقد مر زهاء شهر على وفاته ولما يصل الخبر إلى أمانة مجمع اللغة العربية في القاهرة ؟! وتأثر الدكتور تأثرا بليغا انقلبت معه زيارتي العلمية إلى تأبين للمرحوم .
 
وتشاء الصدف مرة أخرى أن أنعي صديقي عبد الله راجع ، أو على الأصح يُنعى إلي لأتولى أنا نشر الخبر . أكُتب علي أن أنعي عباد الله كبوم مشؤوم ؟ أما يبلغ من مروءتي إلا أن أكون ناعيا ؟! لا لا ! واجب التلمذة على الأول ، وصداقة الثاني يأبى علي أن أودع الهالكين في صمت كشرطي مرور لا تهمه سوى حركة السير ؛ وإذا كان عامل الزمان قد حال دون تأبين أستاذي كنون ، فإن وفاة عبد الله راجع لا ينبغي أن تمر كسابقتها ؛ وهذا لا يعني البتة بأن أصحاب الأقلام قد قصروا في حق الرجلين ؛لذا وجدتني مجبرا على المساهمة في هذه الالتفاتة ، وسأحصر كلامي حول مشاركتي للمرحوم راجع في الفترة الأولى من عمله في حقل التعليم ، وهي فترة لم تنل ـ حسب علمي ـ اهتماما من الذين ساهموا في تأبينه .
 
لقد تعرفت على الفقيد سنة 1972 يوم جمعنا العمل في ثانوية الكندي بالفقيه بن صالح وتوطدت بيننا عرى الصداقة ، وإن اختلفنا في أمور قليلة ، فقد اتفقنا كثيرا ، ولا عجب أن نتفق ما دام همنا المشترك أن نردّ بعضا من جميل أبناء شعب ، هذا الشعب الذي تحمّل الكثير من أجل أن يصبح هو أستاذا وشاعرا مشهورا ، وأصير أنا أستاذا ولو مغمورا . فمن أجل هؤلاء استيقظنا ، نحن الأربعة 🙁 راجع ، وأحمد العابدي ، وعبد المجيد المصدق ، وإدريس اعفارة )، استيقظنا صبيحة عيد الفطر 1393 ( 1973) لنرقن (مجلة الكندي ) حتى توزع على التلاميذ بمجرد عودتهم من عطلة العيد بثمن رمزي ، ولم تكن عملية الرقن سهلة عهدئذ ، ولا نسخ المكتوب على آلة الستانسيل باليسير ، ومع ذلك تضافرت جهودنا ، وأخرجنا العدد المتضمن لمساهمات تلاميذ تلك الفترة ، أتذكر منهم الشاعر محمد بوجبيري الذي نشر إحدى قصائده في هذا العدد ، ولعلها أول قصيدة تنشر له قبل أن يشتهر.
 
ومن أجل أبناء الشعب أيضا كنا نحن الأربعة وبمساهمة فعالة من باقي الأساتذة ، أتذكر منهم الأستاذ عبد الله مشعل ، والأستاذ مصطفى عبد المومني ، والأستاذ جمال الدين أسريري ، والدكتور محمد العمري ، والدكتور محمد بن الصغير ، والدكتور أحمد ممنون، والأستاذ سيد الخير ، والأستاذ بن يامنة ، والأستاذ الدبدي محمد ، والأستاذ مصطفى بوحافة ، وبعض أساتذة التربية البدنية ، وبعض الإداريين .
 
ساهم المرحوم بتفان في إنجاح التظاهرات الثقافية والرياضية ، أتذكر منها ، قراء ات شعرية ، ومحاضرات ، منها : محاضرة عبد الله مشعل حول الكاتب ابن طبا طبا ، وأحمد العابدي حول المتنبي ، وعبد الله راجع حول الشعر الحديث ، وعبد المجيد المصدق حول الصحافة ، وإدريس اعفارة حول الذكاء .
 
ومن مستملحاتنا في تلك الفترة أنه كان راجع قبل زواجه يسكن مع الأستاذ عبد الله مشعل ، ولكي نميز بينهما وصفنا مشعل بأنه عبد الله البري ، لأنه قادم من الشاوية ، وراجع وصفناه بعبد الله البحري لأنه من الدار البيضاء .
 
لم تذهب هذه المجهودات سدى ، فقد تفتقت التجربة عن جو ثقافي لم تشهده ( المدن السفلى ) من قبل ، وأنجبت كتابا وشعراء يعود الفضل في ظهورهم ـ إن قليلا أو كثيرا إلى عبد الله راجع
 
ويكفيه فخرا أن يكون محمد بوجبيري ، ومحمد غرناط من الرعيل الأول من تلاميذه . وكان للشاعر في هذه الفترة بالذات ارتباط وثيق بمدينة المحمدية ، فقد كان من المؤسسين لمجلة الثقافة الجديدة مع زميله الشاعر محمد بنيس ، وهو الذي أقنعنا بالاشتراك السنوي في هذه المجلة الراقية المأسوف عليها وعليه .
 
قليلون هم الذين يعرفون عن عبد الله راجع ـ ما لم يعاشروه ـ أنه كان إنسانا بسيطا في سلوكه ، يتصف بالغيرية ونكران الذات والأريحية ، ويغترون بنظارته السوداء فيحسبونه شاعرا من الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون ، ويعيشون في بروج مشيدة .
 
إيه ياعبد الله ، ياپروميثيوس ! سرقت من الآلهة قبسا من نور كي تنير لبني جلدتك الطريق ، فاكتويت بنار ما قبست وعانيت !
 
مازلت أذكر يوم توقف ( التحرير ) ، وكُتمت ( أنفاس ) واعتقل ( المحرر ) ، واستبدلت الثقافة الجديدة بثقافة المواسم ، ومع هذا ، بقيت لك ( مواقف ) و ( آفاق) ، لم تنسحب ؛ لقد آثرت التغني على( رصيف ) ، بيد أن هوميروس كان يتغنى على الرصيف ! وتحطم الحصان وفك الحصار عن طروادة ، ولكل ظالم نهاية ، وبقيت الملاحم ، وبقي هوميروس يتغنى على الرصيف .
 
رحمك الله يا من حملت حتى الموت صخرة سيزيف .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top