أتذكر كلما حللت بقرية “الفنيدق ” أجيالا من رجال قبائل الحوز واللانجرة، كانوا شوكة في حلق المستعمر الإسباني أيام عبد الكريم الخطابي، إذ كانوا يشنون هجماتهم على مراكز العدو في الفنيدق والمضيق وتطوان وغيرها، ويحصلون على عدتهم وعتادهم من أسلاب المستعمر الغاشم، ولولا تواطؤ الاستعمارين الفرنسي والإسباني على المجاهدين، لما ظفر الإسبان بموطئ قدم في مغربنا العزيز.
وتشاء الصدف أن أزور الفنيدق في الأيام التي تُحيي فيها الجرائد الوطنية ومعها الجماهير المغربية ذكرى أنوال، وهنا المفارقة!
قررت أن أسافر من الفنيدق إلى طنجة، ومن البديهي أن أركب الحافلة الرابطة بينهما مباشرة لأن المسافة – حسب علمي – لا تتجاوز سبعين كيلومترا، بينما هي -مرورا بتطوان – خمسة وتسعون تقطعها الحافلة في ظرف ساعتين، إذن لن تتجاوز الحافلة المباشرة ساعة ونصفا .
تشعرك الحافلة المباشرة بمأساة ركابها وتجعلك تعرف مغربا لم تسبق مشاهدته في التلفزة، ولا “الكمبيوتر “. حشرت نفسي في الحافلة، وفوجئت برفوفها ومقاعدها مملوءة عن آخرها بخليط من البضاعة والبشر، وبعد لأْي وجدت مقعدا، تحتي بضاعة وفوقي بضاعة، وألْفيتني غريبا، لأن جل الركاب متعارفون تجمعهم “السخرة” إنهم أبناء وحفدة المجاهدين، دفعتهم الحاجة إلى احتراف التهريب.
بمجرد انطلاق الحافلة، نهض أحد الركاب يبدو أنه أَعْرَفهم بما يحمل كل واحد من باعة، تطوع هذا الراكب لجمع الأتاوة التي يؤديها أصحاب “السخرة ” بالتضامن لـ “رجال البلد ” ، فكان يأخذ من هذا عشرة دراهم، ومن ذاك خمسة دراهم، ومن ثالث عشرين وهكذا، ولما جاء دوري لم يأبه بي بالرغم من أنني أتوفر على حقيبة كبيرة، وبالمناسبة، فإن حقيبتي، وحدها وضعت على سطح الحافلة في شموخ.
وفجأة شب نزاع بين المتطوع وأحد الركاب، فقد دفع الراكب عشرة دراهم ورأى المتطوع بثاقب بصره أن “سخرة ” الراكب تستوجب عشرين، وتضامن أصحاب السخرة مع المتطوع، وواجه هذا الأخير المتمرد بجرأة وصال عليه صولة، فلم يجد المتمرد إلا استلال خنجر من جيبه، ولولا تدخل الركاب الكثيف لآل الأمر إلى كارثة، واختلط الحابل بالنابل فلم انتبه إلا للخنجر وهو يلمع في يد أحد الشيوخ، هذا الشيخ المهرب بعمامته وجلبابه الجبلي القصير وسرعة تدخله، ذكّرني بآبائي المجاهدين وهم يهاجمون الجنود الإسبان وينتزعون منهم بندقياتهم بذخيرتها .
واصل السائق المسير ولم يعر الحادثة اهتماما، الشيء الذي فسرته بأنه متعود على مثل هذه المشاحنات، وقبل أن أتنفس الصعداء، انفجرت إحدى العجلات فتوقف السائق، واستبدلت المعطوبة بأخرى.
عدت إلى الحافلة مرددا اللطيف.. واصلنا الطريق، وعلى حين غرة وجدنا “رجال البلد” لنا بالمرصاد، فاستثقلتهم لأنهم سيؤخرونني أكثر، لكن المتطوع صرفهم عنا بقدرة قادر، فلم يفتشوا ولم يوشوشوا.
عادت الحافلة تنهب الطريق نهبا وتتمايل في المنعرجات الكثيرة طربا بالنجاة، إلا أن صعوبة التضاريس والوقوف بين الفينة والأخرى لنزول أو صعود القرويين زاد السفر طولا، وتحليت بصبر أيوب إلى أن وصلنا مدينة البوغاز .
كان خروجنا من الفنيدق على الساعة العاشرة ووصلنا طنجة في الثالثة والنصف، خمس ساعات ونصف، خمس ساعات من الهلع بين حفدة من زرع في صفوف الاستعمار الفزع.
أليست هذه مفارقة؟
تصوروا لو حظيت المنطقة بمثل العناية التي تحظى بها مناطق “المغرب النافع” تصوروا لو بنيت معامل لتكرير البترول وتركيب السيارات، وتصبير السمك لما وجدنا الأهل يتقاتلون بالخناجر من أجل كسرة خبز.
إنها الأمجاد في الماضي، تمخض عنها الخبز الحافي