القسم الأول
كاميلو خوسي ثيلا / تعريب :دريس عفارة
نشر كاميلو خوسي ثيلا روايته “عائلة باسكال دوارتي ” سنة 1942 وبفضلها اكتسب شهرة عالمية، ثم توالى إنتاجه المتنوع، وقصته، “الموسم ” من أجود أعماله، نشرها لأول مرة في صحيفة أريبا ARRIBA الأسبوعية سنة 1948 ، خلال شهر ماي بمعدل فصل كل أسبوع، ووضع لكل فصل عنوانا، ثم أعاد نشرها كاملة في كتابه “صفحاتي الأثيرة Mis Paginas Preferidas الصادر عن دار كريدوس Gredos بمدريد سنة 1965. ثم نشرت في كتاب مختارات لمعاصري القصاصين الإسبان Espanoles contemporaneos antologia de cuetistas لفرانثيسكو غرسيه بافون، ونشر كريدوس 1959.
ونشرت مرارا (أربع مرات على الأقل) ضمن المجموعة التي أعطاها كاميلو عنوان “الجليقي وجماعاته EL gallego ysu cuadrilla ، وهي مجموعة قصص قصيرة ومذكرات شخصية كتبها في مصايف جبلية.
أما التعريب فقد تم مباشرة من المجموعة الكاملة لأعمال كاميلو خوسي ثيلا Obra completa de c.j.c tomo III Pags.92-111 Ediciones destino
Barcelona
وتجدر الإشارة إلى أن ثيلا يكتب بأسلوب متميز، يوظف فيه المجاز والأمثال وخصوصيات المجتمع الإسباني، وثقافة واسعة وشاعرية فياضة، الشيء الذي يجعل الترجمة جد عصية.
الموسم تقليد متعارف عليه، يلهج بذكره الركبان، ويحجون إليه سنويا قاطعين فراسخ عدة من كل نواحي الإقليم، يأتي بعضهم على الجياد، وآخرون في حافلات منجدة بالأغصان، ولكن معظم الزوار يستعملون عربات تجرها ثيران، هذه الثيران تصبغ قرونها ببياض الاسبيداج أو كربون الرصاص، وتزين جباهها بالأقاحي وشقائق النعمان.
الفصل الأول: I الاستعدادات
انصرف رب العائلة كليا للتفكير في الموسم. في القطار لا يتداول الناس غير حديث الموسم.
– أتذكر ياكيتو المشتغل بالتلغراف لما فقأ عين السيدة بورا؟
– طبعا أذكر، تلك التي أحدثت ضجة. وقال أحد أفراد الحرس المدني إنه ينبغي أن يحضر السيد القاضي ليأخذ العين.
– أتذكر ذلك الشاب المتأنق عندما وقع كله بسرواله الأبيض في مقلاة صانع الشورو CHURRO ؟
نعم أذكر، ما أشد صياحه! لقد اتضح له حينا أن عملية القلي، تذيق السعير.
يزور رب العائلة ذويه في القرية أيام الأسبت، ويعود إلى العاصمة كل إثنين باكرا حتى يتسنى له الوصول إلى المكتب في الوقت المناسب، ذووه -كما يقول – سبعة، زوجة، وخمسة أطفال وماما زوجته : زوجته تسمى إنكارناثيون Encarnacion ، بدينة ولا تحترم أحدا، والأولاد كلهم طوال ضعاف، ويسمون لويس Luis (عشر نوات) وخوسي ماريا Jose Maria (ست سنوات) ولاورنتينو Laurentino (أربع سنوات) وعديليتا Adelita (سنتان).
تلوح الشمس بشرتهم في الصيف، فيبدو لونهم مستحسنا. ولكن بعد شهر من رجوعهم إلى العاصمة يعاودهم الدبول وغؤور العيون كأنهم يحتضرون.
وماما زوجته تدعى عديلة ADELA ، وفوق كونها بدينة ولا تحترم أحدا، فهي مغناج وشديدة الإلحاح، خسئت يا جدري(2) هذه المدعوة عديلة عجوز، متصاببة، تملك روح دودة القبور.
رب العائلة سعيد بالوقع الحسن الذي تركه في النفوس مخططه المتعلق بالذهاب رفقة أسرته لتناول وجبة العصر في الموسم، وأخبرهم بهذا على مائدة العشاء، لذا نام الجميع على التو حتى يأخذوا قسطا أوفر من الراحة ويستردوا حيويتهم استعدادا للغد المرتقب .
جلس رب العائلة في الحديقة مجردا من سترته، وهذا ديدنه كل ليلة سبت، ليدخن سيجارة ويفكر في الحفلة، ومع ذلك كان يشرد أحيانا ويفكر في شيء آخر، في المكتب مثلا، أو في مخطط مارشال (3). أو في بطولة الكأس .
حل اليوم الموعود، وتلافيا لكل ما من شأنه أن يعرقل برنامج الرحلة، ارتأت السيدة عديلة أن تحضر قُدّاس الساعة السابعة بدل قداس العاشرة . أيقظوا الأطفال نصف ساعة قبل الموعد، وناولوهم طعام الفطور، ثم جهزوهم ليوم الأحد، وكانوا دائما يضعون نصب أعينهم أن التبكير بنصف ساعة ليس بشيء، ومع ذلك استطاعوا بأخرة أن يعدو أنفسهم.
أيقظت الزوجة رب العائلة:
– هب يا كارليتوس (4) ، هلم إلى القداس!
-ولكن، كم الساعة؟
– إنها السابعة إلا عشرين.
قال رب العائلة راجيا:
– ولكن يا امرأة، يا إنكاريا (5) ، دعيني أنام. إني جد مرهق سأحضر القداس فيما بعد.
– إلا هذا، كان عليك أن تنام مبكرا! إنك تؤجل وتدبر لقداس الثانية عشرة.
-أي نعم، وما العيب في هذا؟
– طبعا! لتظل بعدئد تنهل مع صحبك شراب البرموث Vermu!
هذا دأبك ! بعد العودة من القداس، حوالي الثامنة والربع، ألقى رب العائلة وأبناؤه الخمسة أنفسهم في حيص بيص لا يعرفون ما يعملون، قعد الأطفال على سلم الحديقة . ، فإذا بأمهم تحذرهم من مغبة الإصابة بنزلة برد . كذا ! دون أن تفعل شيئا، اقترح الأب أن يقوم الأبناء -وهو على رأسهم- بجولة في حقل قطعت أشجاره خلف بيتهم، ولكن الأم استهانت بالاقتراح، واعتبرته سمجا لا يدور بخلد أي معتوه، وأن ما يعوز الأطفال حقا هو التماس الراحة استعدادا للزوال.
ونظرا للخيبة التي مني بها رب العائلة، صعد متسللا إلى غرفة النوم، ولهيب الهوان يلدغه، لعله يختلس برهة يتمدد فيها، لكنه وجد السرير قد كشط عنه غطاؤه.
الأطفال يتجولون تائهين كالأرواح المعذبة، إلى حدود الساعة العاشرة، إذ استيقظ أبناء الحديقة المجاورة، وبدأ النهار يسترد،-إن قليلا أو كثيرا- هيئة الأيام الرتيبة.
وكذلك حوالي العاشرة، وربما بعدها بقليل، اشترى رب العائلة جريدة مساء اليوم السابق ومجلة متخصصة في مصارعة الثيران، الشيء الذي -إن أحسن تنظيمه – يضمن له قراءة إلى حدود منتصف النهار، أما الأطفال والذين لايتحملون أي عبء . فلم يحسنوا التصرف وتعفروا بالتراب، الوحيدة التي أحسنت التصرف من بينهم جميعا كانت إنكارينتا، -ارتدت بذلة مائلة إلى الزرقة، وعلى شعرها أنشوطة كبيرة كالخبيزة، – ولكن المسكينة لم تكن محظوظة، فقد لسعها زنبور في وجنتيها، سمعت جدتها صياحها فهرولت نحوها تزبد وترغي، كالمدفع، ونعتتها بالفاجرة وذات النزوات، وأنزلت بها نصف دزينة من اللطمات، اثنتان منهما مبرحتان، وبعدئد، عندما اطلعت السيدة عديلة على أن ما جرى لحفيدتها ليس سوى لدغة زنبور، عادت تلاطفها وتشفق من حالها، وقضت بقية الصباح بجانبها تضغط على موضع اللسعة بقطعة نقدية من فئة بيرا كبيرة (6) Petta Gorda.
– هذا هو الأنجع. سترين أن هذه القطعة قمينة بإراحتك.
أجابت الفتاة وهي قليلة الاقتناع: إن نعم! لأنها عرفت أن المعارضة لا تفيد ومن الأفضل أن تقول دائما: آمين!
خلال هذا، كانت الأم، السيدة إنكارنا تصدر تعليماتها لخادمتين كقائد عسكري في معركة حامية الوطيس، قرأ رب العائلة، في تلك الأثناء، مقالا حول منجزات باكيتو مونيوث، وحسب الناقد الصحفي، فإن الفتى قد أبلى البلاء الحسن .
أما الوقت فبطيء، بيد أنه يمر بالتأكيد، إلى أن حان موعد الغداء، تأخر التحضير عن المعتاد، ذلك أن البكور والثقة في وفرة الوقت مع التواكل، كل هذه، جعلت الأمور تخرج عن نصابها.
في الساعة الثالثة، أو الثالثة والربع. جلس رب العائلة وذووه إلى المائدة، تناولا الغابادا(7) الأشتورية كطبق أول، إن رب العائلة يفضل في الصيف السلاطات والغاثياشو (8) وعموما الأطباق النيئة.
بعد الغابادا تناولا شرائح اللحم، والموز فاكهة.
أما طفلة الزنبور، فقد آثروها على أنفسهم فوق هذا بقطعة حلوى بالنعناع، إنها ملاك صغير بوجينة كالبركان . ولكي يواسيها الوالد فسر لها أن الزنبور أسوأ حالا منها، لأنه يتميز عن غيره من الأشياء، فاللدغة تكلفه حياته، أجابت : صحيح؟ ولكنها لم تلمس من نفسها أي استعداد لسماع هذا الذي يسمى حقيقة عظمى، ولا أن تعيره أي اهتمام، لنقلها بصراحة.
صدر الأمر للأطفال بالقيلولة بعد الغداء مباشرة، ذلك أن النهار طويل ولا يستحسن الخروج قبل السادسة، ومنعوا إنكارنيتا من الرقاد، لأنه لهذا لسعها الزنبور.
دخلت السيدتان عديلة وإنكارنيتاثيون إلى المطبخ من أجل وضع اللمسات الأخيرة على سلة فيها عجة Tortila بالبطاطس وشرائح لحم مقلية، وزجاجة ماء فيشي الكطلاني للعجوز ذات المسالك الهضمية الجد متوسطة.
خرج رب العائلة، وال “إنكارنيتا” في جويلة لتيسير الهضم والتملي بمناظر الطبيعة المتنوعة.
الساعة تشير إلى الرابعة، وبعد أن يكمل عقرب الدقائق دورتين، على الساعة السادسة، ستشرع العائلة في المسيرة، صوب الطريق الأعلى، إلى الموسم.
في كل عام موسم.
1) الشورو كعك شهير في إسبانيا تقلى عجينته في الزيت على شكل أنبوب حلزوني.
2) يدعو عليها بالموت
3) كتبت القصة سنة 1984 بعيد الحرب العالمية الثانية، ومارشال كاتب الدولة الأمريكي صاحب مخطط المساعدة الأمريكية من أجل إعادة تعمير أوربا.
4) كارليتوس تصغير كارلوس وهم اسم رب العائلة، وعلى ذكر التصغير فإن كاميلو خصوصا والإسبان عموما مولوعون به إن تمليحا أو تقبيحا كما سنرى.
5) إنكارنا ترخيم لانكارناثيون إسم الزوجة.
6) بيرا كبيرة” تساوي عشرة سنتيمترات من البسيطة PESETA
7) الفابادا Fabada أكلة تتكون من لحم الخنزير مع الفول واللوبيا اليابسة.
8) الغاثباشو Gazpacho حساء بارد يصنع من فتات الخبز البائت والخضر النيئة والخل والزيت.
الفصل الثاني الطريق / El Camino
قررت السيدتان إنكارناثيون وعديلة إيقاظ الأطفال على الساعة الرابعة والنصف، وضد كل توقعاتهما، جهزت السلة بأزواد أكلة العصر، ولم يعد هناك أي مبرر للانتظار ساعة بحالها، في فراغ تام، كف على كف كالبلداء .
أضف إلى هذا فاليوم جميل، بل جميل جداً، ومن الأليق التمتع بالشمس والهواء، وبالفعل فما أن حلت الساعة الخامسة حتى أخذت العائلة طريقها إلى الموسم، يتقدمهم رب العائلة مصحوبا بابنيه الأكبرين، لويس الذي صار يافعاً، وإنكارنيتا، الصبية التي لذغها الزنبور، تليهم السيدة عديلة مع خوسي ماريا ولورنتينو، كل واحد في يد، ثم تأتي السيدة إنكارناثيون وعديليتا بين ذراعيها في مؤخرة الموكب، في البداية لم يكن بين الطليعة وآخر الموكب سوى بضع خطوات، ولكن بعدت الشقة بطول المسير، وبلغ الفاصل في آخر المطاف قرابة كيلومتر، هذا ما يقلق رقباء الجيش عندما يتولون مرافقة سرايا الجبل إذ يتناثر الجنود عبر الطريق.
تولى لويس حمل سلة أكلة العصر الثقيلة نسبيا في عربة أخته الصغيرة، أما الخادمتان الـ “نيكو ” والـ “استريا ” فقد منحتا إجازة، لأنهما في الحقيقة، لا يخلقان إلا الإزعاج، ويقضيان سحابة اليوم حاشرتين الأنف فيما لا يعنيهما .
خلال الطريق، حدثت أشياء تقع دائما على وجه التقريب : طفل شكا من العطش وكان جزاؤه القرع بجمع اليد على أم رأسه، إذ لا وجود للماء في هذه الربع، طفل آخر أراد الاختلاء بنفسه، فصاحوا به أن مثل هذا الملتمس يقدم قبل مغادرة المنزل، طفل ثالث يحس بالعياء فإذا بهم يسألونه بازدراء عميق عما استفاده من استنشاقه لهواء الجبل، صدقا، إنها مستجدات عظيمة، ولا واحدة منها تستحق الذكر.
خلال الطريق، لم يَبد أحد في البداية، إلا ما قد يكون من رُويع قاعد على صخرة بعيدا عن غنمه، ولكن باقتراب الوفد من الموسم بدأ يظهر بعض المتسولين المبالغين في إبراز بؤسهم، وزوار يفدون من الشعاب وقد أفرطوا في التأنق، وبائع متجول أعور أو ملتج، يحمل صينية مشدودة إلى عنقه يعرض عليها بضاعته الرخيصة، ورجال الحرس المدني على قدم وساق، وأزواج العاشقين ينتظرون غروب الشمس، وأطفال الأحياء الحديثة الذين شبوا عن الطوق -أربع عشرة وخمس عشرة سنة – يزعمون أنهم يصطادون السناجيب، والجنود كثير من الجنود، كونوا فرقا وبدأوا يغنون أغاني أشتورية على أنغام الخوطا Jota والمارياشي Mariachi بدقة متناهية.
على مشارف الموسم- زهاء خمسمائة متر عن الموسم- جلس رب العائلة ولويس وإنكارنيثا، التي خفت عليها وطأة اللدغة، منتظرين بقية الأسرة.
في غابة الصنوبر، وتحت قمم الشجر حرارة خانقة، أشد منها في الأماكن المشمسة.
بمجرد الخروج، وضع رب العائلة سترته في عربة الطفلة عديليتا، ثم شمر أكمام قميصه وهاهو يلاحظ تلون ساعديه واحمرارهما، في رأي لويس أن سبب هذا قلة تمرس، وأن السيد ساتورنيو أب صديق، قد مر بتجربة أقسى، لدرجة أن جلده قد انسلخ، وتتدخل إنكارنيتا : أي نعم، إنه واضح ! تبدو رائعة وهي تقتعد صخرة مرتعة شيئا ما ببذلتها المائلة إلى الزرقة وبأنشوطة شعرها الكبيرة، حقيقة، إنها واحدة من المليكات التي تسير في المواكب الدينية.
عندما لحقت بهم الجدة والحفيدان، وبعد هنيهة، الأم وابنتها الصغرى بين يديها، جلسوا من أجل استرداد النفس، وقالوا إن المشهد رائع وإنه نعمة من نعم الله، توفر للزائر استراحة سنوية يسترجع فيها قواه استعداداً لفصل الشتاء .
– إنه مقوٍّ جداً – قالتها السيدة عديلة وهي تأخذ جرعة من زجاجة ?يشي الكطلاني- يقولون إنه مقو جداً.
شعر الآخرون بظمأ بالغ، ولا مفر لهم من التحمل، لأن زجاجة العجوز : محرمة عليهم -كبقرة مقدسة – وأقرب مورد يبعد بفرسخين . الحقيقة أنهم لم يحترسوا، وإلا لحمل كل منهم زجاجة، واضح إذن، لا ساعة مندم ! لم يعد لهذا حل البتة، ولميت الحُمُر يُعطى من الذيل العلف (8) ، العائلة جالسة تتفيأ ظل غابة الصنوبر، بفم جاف، وأقدام منهوكة، وأثواب معفرة بالغبار، تعمل جاهدة للتظاهر بالسعادة، الجدة، التي روت غلتها، وحدها تتكلم:
– هيهات من أيام زماني ، عهدئد نعم كانت المواسم!
لا يولي رب العائلة وعقيلته والأولاد أي اهتمام بكلامها، ولو مجرد الإنصات، الموضوع مستهلك، ثم إن العجوز لا تسمح بمقاطعتها، ولكن هذه الـ “هيهات من أيام زماني ” جعلت الختن يردف بنشوة انتصار “تعني حضرتك أيام الضون أماديو Don Amadeo” (9) نشب على ردها شجار هائل لا ينسى، منذ ذلك اليوم، وكلما حكى رب العائلة هذا الحدث لقريبه ورفيقه في المكتب خايمي كويادو، والذي كان بمثابة أمين سره وملاذه في السراء والضراء إلا وكان رده دائما “إنه الانقلاب العسكري”.
في ظرف وجيز، خلد الجميع إلى الراحة في شبه صمت، إذا بالولد الأكبر يقف صائحا:
-آه!
أراد أن يقول:
-انظروا هناك حيث يبدو بائع مشروبات قادماً
ولكن في الواقع لم يند منه غير هذا التأوه.
كانت الصخرة التي اقتعدها ملطخة بالراتينج(10) ، وبمجرد وقوفه شعر الفتى بقرصة،
هب الآخرون واقفين، خلا السيدة عديلة، فإذا هم جميعا في اللطوخ غارقون.
وتجابه السيدة إنكارناثيون زوجها:
-أي نعم، أحسنت اختيار المكان! هذه مغبة تساهلي معكم في أمر التقدم، وهذه فحسب!
ويحاول رب العائلة استرضاءها:
– لا بأس يا امرأة، لا تبقي هكذا، سنرسل الثياب إلى المصبغة.
– أية مصبغة؟ هيهات! لاوجود لمصبغة تصلح مثل هذا!
وتقول السيدة عديلة، جالسة كالعادة، إن الحق بجانب ابنتها، لأن هذا لا يصلح في أي مصبغة، إنه لا يوجد مكان للاستراحة أقبح من هذا الذي وقع عليه الاختيار.
– تحت صنوبرة – تقول العجوز- ماذا سيكون؟ الراتينج بالتأكيد!
خلال هذا، كان بائع المشروبات يدنو من العائلة.
– هنا مشروبات! عندي مشروبات! سيدتي- يوجه الخطاب للسيدة عديلة- هنا ستتزينين بالراتينج.
ولكي يسترد رب العائلة بعضاً من كرامته المهدورة، سأل البائع:
– أباردة هي؟
– ناهيك، لأطول مدة.
– حسن، أعطيني أربعاً.
المشروبات دافئة كالحساء، وطعمها أشبه ما يكون بمعجون الأسنان، من حسن الحظ أن الموسم، كما يقول الواحد، في متناول اليد.
الفصل الثالث / في الموسم
وصلت العائلة إلى الموسم بأفواه حلوة، مزيج من المشروب والغبار نتج عنه في اللهوات طعم يلاك مثل الزبدة.
الموسم مليء بالجنود، قضوا شهرا من التدريب في هذا المكان، وقد منحهم رؤساؤهم إجازة بمناسبة يوم الموسم.
– اليوم، بعد الدروس النظرية – قال كل رقيب – يرخص لكم بالخروج إلى حدود غروب الشمس، يمنع السكر، وإثارة الشغب ضد الأهالي . للحرس أوامر مشددة بشأن الحفاظ على الهندام، إنها تعليمات العقيد . انصرفوا …!
الجنود في الواقع كثيرون، ولكن، على ما يبدو، يتصرفون بتعقل، بعضهم يراقصون الخادمات، وآخرون يحادثون عائلة على مائدة وجبة العصر، يغنون بلكنة أندلسية، أغنية تقول:
وداعاً يا بامبلونا
يابامبلونا يا حبي
يا حبي
وداعاً يا بامبلونا
متى أملّي منك العيونا.
إنها الأغاني القديمة من أيام الحرب الأهلية (11) ، هؤلاء الجنود لم يمروا بها، لأنهم في أيام الحرب كانوا في الحادية عشرة أو الثانية عشرة من عمرهم، ولكنها وصلتهم تواتراً خلفاً عن سلف يرثها المجندون الجدد عن سابقيهم، كما يرث الصغار ألقاب آبائهم . ويقول الجزء الثاني:
لم أحفل بالغواني،
برغم جمالهن الفتان،
جمالهن الفتان،
سأغدو إذا دعوني
للذود عن أعز الأوطان
لم يكن الجنود سكارى، بيد أنه بمجرد الوصول، عمد بعضهم إلى الانسياق وراء النزوات كأنما خُلقوا لها.
حطت العائلة على بعد أمتار من الطريق، خلف محلات لبيع الشورو محاطة بعائلات أخرى ترفع عقيرتها بالغناء، وتضحك ملء الأشداق، يلعب أطفالهم مجتمعين ويتمرغون في التراب، ومن حين لآخر ينهض أحدهم باكيا وقد خدشت ركبته أو شج رأسه .
أطفال السيدة إنكارناثيون ينظرون إلى هؤلاء بحقد، صدقا، يحسدون أطفال الحشد، الذين يرخص لهم أهلهم بالتمرغ على الأرض، إنهم أطفال سعداء، مشاغبون كالمعز، أحرار كطيور السماء، يقومون بما تمليه عليهم رغبتهم، دون معارضة من أحد .
بعد أن فكر لويسيتو Luisito ملياً، تقدم من أمه مداهناً ككلب يهز ذيله:
– أمي، أتتركيني ألعب مع هؤلاء الأطفال؟
ألقت الأم نظرة على الجماعة، وقطبت جبينها:
– مع هؤلاء المتبربرين؟ ولو كلمة! إنهم جميعا عصابة همج.
ثم نفخت حوصلته! وأضافت:
– وفوق هذا، أستغرب كيف تجرؤ على مجرد النبس ببنت شفة، بعد أن لطخت سروالك بالراتينج، اخجل من نفسك!
صعق الولد وأربكته شمتة الآخرين، وشعر بحزن ممض جعله يحمر حتى الأذنين، في هذه اللحظات أحس بأنه سيظل كارهاً لأمه إلى الأبد.
وتعيد الأم الكرّة:
– ها قد اشترى لك أبوك زجاجة، يا لك من نهم!
طفق الولد يبكي داخله بمرارة لا حد لها، واحمرت عيناه، وبدتا كأنما تعرضتا لشواظ من نار، وجف ريقه، ولم يبق له سوى أن يذرف الدموع جهاراً، وغمره الهم حتى كاد يتميز من الغيظ.
إن بعض الأسر المحترسة، جاءت إلى الموسم وعلى كواهلها مائدة للطعام، وستة كراسي، لقد تصبب منهم عرق غزير من أجل توفير هذه الأمتعة، والحفاظ على الأطفال من الضياع خلال الطريق، وها هم الآن يجنون ثمرة تعبهم، يجلسون مستريحين حول المائدة، يتناولون طعام العصر ويلعبون الورق، كما لو كانوا في عقر دارهم.
شرد لويستو متأملا إحدى هذه الأسر، وبدأ كل شيء يدخل دائرة النسيان، هذا الولد طيب القلب، ليس ناقماً ولا حقوداً.
رجل مبتور الساق يتوجه إلى الناس مشيرا إلى بقية عضوه المقطوع الباعث لكثير من التقزز، ويطلب الصدقة صياحا قرب محل لبيع الكعك، وبين الحين والحين تسقط عليه پيرا، فيأخذها ويرميها إلى بائعة الكعك”
– هه! – يصيح بها – من البيضاء!
أما البائعة فبدينة، نقرها الجدري، عيناها رمضاوان، ولحمها مترهل غير متماسك ترمي له في الهواء كعكة بيضاء كالثلج العتيق، لذيذة كخبز بعد جوع، وصلبة كالصلاية، إنهما معاً حاذقان في التسديد واللقف.
في زاوية خيمة التسديد نحو الهدف أعمى يرتل دعوات للقديسة لوثيا . وغجرية شابة جميلة، حافية القدمين، تضم إلى صدرها وليد عمره أيام معدودة، ومعها آخر أكرش . أُلبس قسرا تنورة مشوهة، هذه الغجرية تكشف الطالع لبعض المتحلقين حولها .
طفل في عامه السادس أو السابع يغني الفلامينكو موقِّعا بكفيه، وبائع مزامير يصم آذان الموسم وهو يعزف “لا تقتلني بالطماطم، بل اقتلني بالغيدس”.
– أيمكن سيدي عزف “كؤَيس من العرق” ؟
انبرت السيدة إنكارناثيون لابنها، وقد استحالت إلى أفعى الباسيليسكو:
-اخرس، يا أبله! تبدو غبيا! يمكن العزف بالطبع، يستطع هذا السيد عزف كل ما يجيش في قرارة نفسه.
ابتسم رجل المزامير وانحنى احتراماً، ثم تابع سيره المعتدل صعوداً ونزولاً، وهو يعزف هذه المرة: “كؤيس من العرق ، ليرشف بالقهوة كالمرق”.
اتفق رب العائلة وحماتة السيدة عديلة على أن النهار نهار، ومن الأنسب شراء الشورو للعيال.
– كيف يتبقى لهؤلاء العيال رمق؟
فاهت بها السيدة عديلة مفعمة بالحنان والتفهم.
– طبعا طبعا!
– طرب لويسيتو للشورو، حتى وإن كان لا يدرك دائماً ما يجري حوله، وكذا بقية الأطفال كلهم جذل وحبور.
مر بعض الجنود يترنمون:
إن لم يقووا بالرقص على زوال
الأصباغ لربة الحان
إن لم يقووا بالرقص على الزوال
ذروها، ذروها ضحية للحدثان.
جاز بعض السكارى يطأون الأرض بعنف، ويحملون زقَّا فارغاً، وشكّل جمع من نحاف المصطافين والمصطافات جوقة، وراحوا يرددون الأغنية التالية:
إذا كنت على ما أنا عليه، ولست كما أنت تريد
فما ذنبي أن أكون كذا وليس كما أنت تريد.
أن تراهم يزاولون حماقاتهم عن وعي وسبق إصرار لأمر يبعث على الأسى.
لما أخذت الأسرة طريق العودة إلى القرية حلا لملكة الكواكب أن تصطبغ بلون دموي قانئ، واستطالت غُمَيْمات هنالك في الأفق البعيد.
الفصل الرابع: العودة
في العمق، في أعماق السريرة شعرت العائلة أنه لم يمر كل شيء في الموسم على ما يرام . في طريق العودة وقد أمسى الموسم ظهريّا، سارت الأسرة خاوية الوفاض كئيبة مثل آلة أكورديون قديم مبتلة . تحرك ريح بارد، رُويح جبلي يسري في الجلد، وسارت العائلة في صمت متجمعة كصنوبرة كثيفة، بأقدام منهوكة، وذاكرة فارغة، وشعر أشعث، وثياب مغبرة، ومخيلة خائبة، وحنجرة جافة، وجسوم تقشعر من قر، لا يقبل التفسير.
أرخى الليل سدوله على الطريق بعد بضع مئات خطوات، إنها ليلة حالكة السواد افتقد بدرها، ليلة مستوحشة رهيبة كإمرأة حمقاء ترتدي ثوب الحداد وتجوب الجبال، زُقّاء بوم ثقيل ينبعث من دُخيل الصنوبر، والخفافيش تحوم كجماعة معتوهين على بعد شبرين من رؤوس أفراد الأسرة السارية، وبين الفينة والأخرى تلحق بالعائلة دراجة أو جواد وتجتازهم، بعد صخب الموسم عمهم صمت مديد، لا تعكره سوى أصوات بعيدة مصدرها مشاجرة أو لهو.
تسلح لويسيتو الإبن الأكبر بالشجاعة ونطق:
– ماما
– ماذا هناك؟
– قد تعبت.
– تحمل! نحن أيضا تعبنا ونتحمل، الصبر جميل!
سكت الولد، كما سكت أبوه الممسك بيده، الأطفال في هذا العمر الذي تنمو فيه قواهم سريع والتأثر ورومانسيون. يبحثون بقلق عن عالم جميل، ولا يفقهون شيئا مما يدور حولهم.
شد الأب على يده.
– اسمعي يا إنكارنا، أظن أن هذا الولد يرغب في قضاء حاجته.
لحظتها أحس الصغير بحنان لا يقدر نحو أبيه.
– ليصبر إلى أن نصل المنزل، ليس هذا مكاناً، لن يحدث له شيء بالتحمل، وسترى أنه لن يتفرقع. لست أدري أي شيطان أرغمني على المجيء إلى هذا الموسم، لنتعب ونغرق في الضياع.
عاد السكوت ليلف الجميع من جديد، أغتنم لويسيتو انتشار العتمة وأرسل دمعتين كبيرتين، انحدرتا بمرارة على خديه، وسار كئيبا، كئيبا جدا، واعتبر نفسه من أتعس أطفال الدنيا، والأكثر حزنا وشقاء -بدون أدنى شك – في الحارة كلها .
جرر إخوته أقداماً في طريق مغبر وقد نال منهم العياء كل منال، وأحسوا بارتياح مبهم يختلط فيه الشعور بالسعادة والشقاء والحنان والفرح والألم، وبالرغم من السير البطيء للأسرة، فإنها استطاعت أن تتقدم على عاشقين يمشيان الهُوّينا، ويخطوان بتثاقل يزري ببطء العائلة .
بدأت السيدة عديلة تهمهم بصوت خافت مؤكدة على أن هذا صفاقة وقلة حياء، وتخل عن المبادئ، بالنسبة للسيدة كل شيء مرفوض ماعدا انشغاليها الأثيرين النر?انا(12) والاغتياب.
كلب يعوي من بعيد عواء طويلاً، وصرار الليل يئز في الحقول بغير حماس . سارت العائلة قُدُماً، وعند منعرج يسمى منعطف القسيس، ظهرت أول أضواء القرية، فتنفسوا الصعداء، وسمع تنهد خفيف داخل كل صدر بدون استثناء، حتى رب العائلة، الذي سيأخذ القطار فى صباح الغد الباكر إلى العاصمة وإلى المكتب، غمرتهم سعادة فاضحة سببها الاقتراب من الدار .
والرحلة على كل حال، تستحق كل ما جرى، لسبب وجيه، وهو الشعور بأنه لم يبق من عمرها غير دقائق معدودة، تذكر رب العائلة نكتة كان يعرفها فابتسم، قرأ هذه النكتة في صحيفة، في زاوية عنونت بكل حذق، دعابة لسائر الناس : كان رجل واقفا في غرفة يطرق رأسه بمطرقة، وكان رجل آخر جالساً في الغرفة نفسها، فسأله : على رسلك يا سيدي بيترس، لِم تطرق رأسك؟ ويجيبه بيترس بحركة ملؤها الارتياح : آه لو تدري كم أجدني سعيدا بعد التوقف !
لما وصلت الأسرة إلى بيتها، وجدت الخادمتين الـ “نيكو” والـ “استريا” بصدد إعداد طعام العشاء، وتذرعان المكان جيئة وذهاباً.
– أهلا، سيدتي! كانت الرحلة ممتعة بلا شك؟
أجهدت السيدة إنكارناثيون نفسها لتقول:
– نعم با ابنتي، ممتعة جداً، لقد نعم بها الأطفال كثيراً، هيا، يا أطفال! – مغيرة لهجتها- اخلعوا سراويلكم، حتى لا تتلوثوا كليا بالراتينج!
الـ “إستريا ” فتاة متأنقة في ملبسها، متزايدة النشاط، أما الأظافر والشفاه فلا تبخل عليهما بالأصباغ، خلاصة القول إنها تتوفر على جميع المواصفات التي تؤهلها لتبدو -بدون عقد – سيدة الجماعة، وربة بيت جاءت لتصيّف وتستجم بعض الوقت، وبحكم وظيفتها كمربية، تولت مهمة إقناع الأطفال بالإذعان لأوامر أمهم.
ارتدى الأطفال مناماتهم، وتعشوا، ثم توجهوا إلى غرفة النوم، وبما أنهم جد متعبين فقد استسلموا سريعاً لسبات عميق، أما فتاة الزنبر وقد همد ألمها، وكادت لا تعاني حتى من انتفاخ موضع القرصة، تعشى رب العائلة وزوجته وحماته مباشرة بعد نوم الأطفال، تملكهم في البداية صمت مربِك، لا أحد يجرؤ على المفاتحة، الرحلة إلى الموسم راسخة في وعي الثلاثة، ولكي ينشغل رب العائلة، فكر في المكتب حيث ينتظره ملف التجهيز بالصناعة الحديثة، ولطالما احتفظ به، إنه موضوع جميل برغم الصعوبات التي تعتوره، ففي المقابل مردوده جدير بالاعتبار، بينما كانت زوجته توزع الأطباق كالحة الوجه، معلنة بهذا عن ضجرها، وحماته تتنهد من الأعماق بين كل رشفة من ماء فيشي ورشفة.
– أتريد المزيد؟
– لا شكراً جريلا، إني شبعان.
– ما ألطفك الساعة!
– لا يا امرأة. كالعادة.
وبعد صمت طويل، أدلت الحماة بدولها:
– لا أود أن أحشر نفسي في شيء، ذاك شأنكما، ولكني قلت لكما مرارا بأنه يبدو لي قاسيا جدا أن يجشم الصغار مشقة السير لمسافة طويلة مثل هذه،
رفعت البنت رأسها ناظرة إلى أمها، وقد شرد فكرها فلم تركز على شيء، وطأطأ الختن رأسه ليرنو إلى الطبق، إلى سمك المرلان المقلي حلقات، محاولا حصر انتباهه في ذاك الملف الهام، ملف التجهيز بالصناعة الحديثة .
في الرؤوس الثلاثة يردد هاجس مبهم ينذر بالعاصفة.
كاميلو خوسي ثيلا
تعريب: ادريس اعفارة- المحمدية
==========
(8) : يكثر كاميلو من توظيف الأمثال، وهي كالشعر تعسر ترجمتها إن لم نقل تتعذر.
(9): أماديو: نودي به ملكاً على إسبانيا سنة 1870
(10) الراتينج: مادة لزجة يفرزها الصنوبر.
(11) الحرب الأهلية الإسبانية (1939-36) انتهت بانتصار الدكتاتورية بزعامة فرانكو، تركت هذه الحرب قرحاً لا يندمل في ذاكرة الإسبان، وقد اتخذ منها المبدعون على اختلاف مشاربهم مواقف تكاد تُجمع على إدانة المنتصرين إن تصريحا أو تلميحا، وبالرغم من تعاون كاميلو خوسي ثيلا مع الجهاز الفرانكوي، فإنه كان مشاغبا ومضايقا له في كتاباته، وكأننا به قد اتخذ هذا الولاء تقية له من شرورهم.
(12) النر?انا: الراحة الأبدية عند البوذيين