ما هذا يا با ادريس ؟!

قدم لنا الصحافي سليمان الريسوني في صحيفة (المساء) ليوم 15/11/2013 الحلقة الرابعة من حواره مع الأستاذ إدريس الخوري، في عموده ( كرسي الاعتراف ). أدلى الخوري من بداية الحلقات باعترافات جريئة تتعلق بنشأته، هذا موجزها : عندما فتح عينيه على هوامش الدار البيضاء ،كان والده (التروبادور) عازف الوتر قد توفي ، وتبعته أمه في السنة نفسها ، فتكفل به أخوه ، وحفّظه القرآن في الثالثة عشرة من عمره … لكن إدريس تمرد على توجيهات الأخ ، وعاد إلى حياة أبيه التي عثر عليها في الأدب ، و(الحياة المحرمة).
اجتاز الشهادة الابتدائية له ولأحد أصدقائه ، فرسب هو ونجح صديقه …
سيقدم محمد بنعيسى عندما كان وزيرا للثقافة كتاباته إلى نجيب محفوظ قائلا : (هذه أعمال أهم كاتب قصة في المغرب)
… على كرسي الاعتراف أيضا سوف نغوص داخل (الوقائع الغريبة) لعلاقة الخوري بالكتابة والحياة رفقة صديقيه ، زفزاف ، الذي يعتبره روائيا كبيرا لم ينل حقه من الاعتراف ، وشكري الذي يقول عنه : إنه كان كذابا وقحا وأنانيا .
هذا ما ورد في تقديم صاحب الكرسي ، ثم يبدأ الحوار ، سأقتطف منه ما يوضح آراء الخوري.
في معرض رده عن استفسار محاوره عن رفضه لأن يكون هو وزفزاف صعلوكين مثل شكري ، مع العلم أن النقاد يجمعون الثلاثة في سلة واحدة ، يجيب :
ـ … أنا لست نظاميا … في حياتي خروج عن المألوف ، فبالرغم من كوني متزوجا فأنا لست نمطيا ، ولا أحرص على البيت والزوجة والأطفال ، فعندي حياتي الخاصة ، ولا أنضبط للمنظومة الاجتماعية ، إذ لا يهمني كثيرا أن أتناول طعامي في وقت محدد أو أنام في وقت مضبوط … أرتاد جميع الأماكن ، وأسافر بكل حرية ، ولعل هذا ما اعتبره بعض النقاد نوعا من الصعلكة ؛ لكن حكمهم هذا خاطئ ؛ وقد أراد بعض الكتاب في السنوات الأخيرة أن يشقوا لأنفسهم نمط حياة شبيها بنمط حياتنا نحن ، لكنهم لم يوفقوا إلى ذلك ( مافيدهومش) لأنهم يخشون من نسائهم ، أما أنا فمتزوج ، لكنني ظللت أعيش حياتي كمالو أنني غير متزوج .
ـ الريسوني : دعني أطلب منك القيام بمقارنة بينك وبين زفزاف ومحمد شكري ، ما الذي يجمع بينكم ؟
ـ الخوري : لم يكن شكري قد ظهر بعد في مجال الكتابة ، عندما كنت أنا وزفزاف منخرطين فيه ، شكري بدأ الكتابة متأخرا … نشر أول مرة في ( الآداب البيروتية ) قصة ( العنف على الشاطئ) و… كنت أشتغل في ( العلم ) وكنت أول من كتب عنها … اعتبرتها قصة متميزة لا تخلو من عنف وجرأة في التطرق لعالم طنجة السفلي ، من جنس وصعلكة ؛ تلك الصعلكة التي عاشها شكري ، والتي لم أعشها أنا وزفزاف … ما يجمعنا نحن ثلاثتنا هو مخالفتنا لطريقة الكتابة التي كانت سائدة وقتئذ ؛ فمحمد زفزاف كان رجلا مثقفا متحدثا جيدا بالفرنسية ومحبا للحياة ، وكان يتردد على أرقى العلب الليلية . أما محمد شكري فكان معلما بسيطا ، وعندما كنا نزوره ، زفزاف وأنا ، في طنجة لم نكن نتركه يدخل يده في جيبه ، أحكي هذا بكل صراحة طبعا ؛ شكري كان يعرّفنا على الأماكن السرية لطنجة ، هذا هو المشترك بيننا ، أما عن كتاباتنا ، فلكل منا نحن الثلاثة طريقته … وإذا استقرأنا منجز محمد شكري وجدنا أنه لم يقدم شيئا ذا أهمية كبرى إذا استثنينا كتابته عن فضاء طنجة السحري بخلاف محمد زفزاف
بخلاف محمد زفزاف … أنا لا أعرف كيف أعطي كل ذلك الاهتمام لشكري ، حيث ترجمت كتاباته إلى عدة لغات ، بينما لم ينل زفزاف حظه من الاهتمام بالرغم من أنه كان كاتبا حقيقيا ، فلم تكن تنقصه الموهبة ، وكانت له قدرة جمة على الوصف والسخرية ، الشيء الذي كان يفتقر إليه شكري … المشترك بيني وبين كل من زفزاف وشكري أستطيع القول أننا أصدقاء كانت بيننا قواسم مشتركة في الحياة ، لكن من الناحية الإبداعية ، كانت لكل منا خاصياته ، إلا أن النقاد صنفونا عن جهل أو خطإ في خانة واحدة .
ـ محمد خير الدين ، هل كان صعلوكا ؟
ـ خير الدين أعرفه منذ كنت أعيش في الدار البيضاء، كان حينها يكتب في مجلة ( أنفاس ) وخلال الفترة التي بدأنا ننشر فيها كتاباتنا ، أنا وزفزاف ، ولاحقا شكري ، كان هو مقيما في فرنسا ، وعندما عاد إلى المغرب لاحقا ، جالسته في عدد من مقاهي وحانات العاصمة . خير الدين كاتب موهوب ، عنيف في لغته … يتميز بكرمه وسخائه ، جريء في كتاباته ، بوهيمي رغم أنه كان أنيقا في ملبسه ، لكنه لم يكن أبدا صعلوكا .
ـ الكاتب الصعلوك في المغرب هو شكري ؟
ـ نعم ، في تقديري .

ناقشنا ـ نحن مجموعة من المستنيرين ـ على الصفحة الزرقاء هذا الموضوع ، وسأنقل أهم ما جاء فيه مع الإشارة إلى المتدخلين بحروف تنوب عن أسمائهم . وقد فاتني جزء من بداية الدردشة.
ا.ع. ـ اذكروا موتاكم بخير .
ب. ك. ـ الخوري قدح في شكري ؛ اختلفنا أو اتفقنا معه ، ما معنى أنه لا يدخل يده إلى جيبه ؟
م.م. ـ ما أحوجنا إلى نقد جاد ومسؤول يتسم بالموضوعية ، ولا يقترن بالقذف المجاني الذي لن يخدم الثقافة والإبداع المغربيين ، لأن من شأن ذلك أن يحول الاتجاه إلى حروب صغيرة غير مجدية …
ب.ك. ـ لقد تسرع الخوري .
ح. غ. ـ الخوري لم يتسرع … لأنه أصلا لا يعرف البطء … لأنه لا فرامل له .
م.م. ـ ارحمونا من هذا الحب القاسي ، كما قال الشاعر درويش .
ح. غ. ـ هههه ، وايني حب هذا !
م. ب. ـ أي حب يا م . ؟ هذا ذبح الموتى ! … وليس من ( خالف تعرف ) انطلق الخوري … انطلق الخوري من شيء آخر تدبره فيما قلت أعلاه .

ب.ك. ـ المهاترات عنيت بها هذا النوع من التصريح الصادر عن الخوري .
م. ب. ـ … وإذا قارنا كتابات إدريس الخوري بكتابات شكري القصصية ، وقارناها بآيات بوزفور والمسناوي والرضواني وزفزاف ( طرف ثالث في المعادلة ) وعبد الجبار السحيمي … ترى ، ماذا سيتبقى ؟ فمن بدرجة مستحقة من الفنية في الكتابة ؟ … يمكن أن تبين رأيا نقديا في الغير … والسلام .
م.م. ـ المعرفة تجعلنا جبناء ، هذا ما قاله شيكسپير في إحدى مسرحياته ، فلنشرح جبننا قبل اتخاذ أي موقف .
ا.ع. ـ … استغربت تصريح الخوري في حق صديقه ـ في السراء والضراء ـ بأن شكري لا يستحق الشهرة التي بلغها ، وأن إدريس الخوري والمرحوم زفزاف كانا ينفقان لوحدهما على لهوهم الثلاثة ، ولا يمد شكري يده إلى جيبه.
ح. غ. ـ يقول الخوري عن شكري إنه أعطيت له أهمية أكثر مما يستحق ، وأنا متفق مع الخوري … شكري لم يقدم للقصة القصيرة المغربية ما يستحق عليه كل هذه الهالة .
ب. ك. ـ الكثير من القراء … يقرأون متيمين بنزار قباني ، ولا يقبلون على السياب ، ودنقل ،والنواب ، فهل قاعدة القراء دليل على الجودة ؟ ألا ينسحب الأمر على شكري ؟
ح. غ. ـ … أتذكر في لقاء قصصي بمكناس ، انعقد في الثمانينات من القرن الماضي ، دفع شكري بمجموعة من النساء إلى مغادرة القاعة وهو يقرأ قصة قصيرة امتطى فيها كلب كبير كلبة من النوع الصغير لتصيح صاحبتها : ( ويلي سيقتل كلبتي !) … طبعا اهتزت القاعة ضحكا … بل قهقهات .
م. م. ـ إن الحب الذي عنيته … هو ذلك الانبهار المتسرع بأقوال من نحن تحت تأثيرهم دون استعمال الفكر
هذا ما استطعت أن آخذه من حديث أصدقاء الفايسبوك ، وهي معبرة عن الأثر الذي تركه في نفوسهم كلام الصديق الحي عن صديقه الميت ، ولم يراع له إلا ولا ذمة . أنا ككاتب مغمور كنت متحفظا من النهج الذي انتهجه المرحوم شكري في حياته ، وإن احترمته كعلم من أعلام الكتاب المغاربة .
وأستغرب هذه التصريحات الهجومية والمتناقضة مع ما كان يقوله الخوري عن صديقه في حياته ؛ مازلت أذكر مقالا للأستاذ الخوري نفسه في الاتحاد الاشتراكي حول صديق شكري المعروف بالروبيو ، ولهج الخوري بذكر الروبيو ، وزين لنا الساعات التي كانوا يقضونها مجتمعين ؛ ولم أكن شخصيا مقتنعا بما قاله في حق الروبيو وشكري ، لأنني أعرف الروبيو ـ وهو التاجر السوسي في طنجة ـ ترك تجارته وتابع زمن الأخطاء بفعل غواية الشحرور ، فصار الروبيو كلا على أهله . فإذا ببا ادريس اليوم يضرب صفحا عما كاله من مديح للفقيد في حياته ، ويقلب له ظهر المجن ، ومن أخلاقنا أن نذكر موتانا بخير .
أن يصدر مني ـ أنا المحافظ ـ مثل هذا الحط من قيمة شكري مقبول على مضض ، أما أن يصدر عن نديمه وسميره ، فغير مقبول البتة .
نعرف أن شكري ركب الشهرة التي حققتها ترجمة پول بولز للخبز الحافي إلى الأنجلزية والطاهر بن جلون إلى الفرنسية بلغة أنيقة تزري بعربية شكري البسيطة ، لكن هذا لا يجيز لنا أن نشوه الرجل وهو في دار البقاء ، ولا يستطيع الدفاع عن نفسه .
لقد خاب ظني في الكثير من المثقفين عندنا ، منهم من ارتمى في أحضان المخزن وأعلن الانشقاق الطبقي ، ومنهم من قاطع المخزن ، ولكن عذرهم أقبح من زلة .
شكري رحمه الله قضى أزيد من ربع قرن مع كتاب من فصيلة جان جينيه ، وپول بولز ، وتنيسي وليامز ، لا يجمعهما الأدب وحده . وهذا آخر يعشق بوهيميته ، وينقاد لها إلى أوكار المحرمات ويترك زوجته وأبناءه للمجهول . وآخر ناضل سياسيا وسجن ثم أطلق سراحه وجبر ضرره ،وصار فاعلا جمعويا ، فتسلم من جهة ما مبلغا بملايين السنتيمات كي يمول به مشروعا تنمويا ؛ وضع المبلغ كله في حقيبته وسافر إلى طنجة ونزل في فندق مصنف ، وفي الليل نزل إلى قاعة القمار وبدأ يقامر بسخاء ؛ فأثار انتباه الحرس لأنه غريب عن الجماعة ، فرنت التلفونات ، وبلغ الخبر إلى البصري رحمه الله ، فأمر بإخراجه من القاعة بما تبقى في حقيبته من ملايين .
ورجل آخر حوصر إبداعه ، ومنعت عنه التلفزة المغربية ، وصار مثالا للمناضل الذي لا يهادن السلطة . وذات حفل من حفلاته المنتظر في مراكش ، ركب الرجل سيارته من البيضاء ، وفي إحدى الاستراحات دارت عيناه فاصطادته إحداهن ، امتنع عن إكمال الطريق ، ولكي يوجِد عذرا مقبولا عمد هو نفسه إلى بقر عجلة سيارته وادعاء أن عطلا أصابها ، وترك جمهوره الذي دفع الثمن في مراكش ينتظر .
ياسلام كيف ندلل السكارى !
السكر شأنهم ؛ لكن أن يجاهروا به ، ويطالب با ادريس في إحدى مقالاته بألا يضايق رجال الأمن المبدعين إن ضبطوا في حال سكر طافح .
ولنختم ببعض مزايا المرحوم محمد شكري ، فهو ليس بخيلا كما صوره صديقه إدريس الخوري ، وليس كله عيوبا ، بل فيه خصال حميدة ، قال أ. ف. في مداخلته الفايسبوكية : … كان شكري يرفض في حياته أن يُستغل … وظل رافضا أموال من أرادوا شراءه بأموال المخدرات والحشيش والفساد ليعلن أنه من عشيرتهم فرفض … عاش زاهدا بأنفة ، ويأتون الآن ليأكلوا من لحمه ، لتنتعش أموالهم الحرام … ويبحثون عن كل من يريد أن يربح بعض الفتات على حساب قبر شكري ، ويصنعون له تمثالا على شكل عجل له خوار يخرج لهم دراهم معدودة ، لا تسمن ولا تغني من جوع … فتبا لهم ! وتبا لمن يجاريهم ! في سوء فعلتهم وضلالتهم .
فعلا ، كل ما قاله أ. ف. صحيح ، فقد كان عزيز النفس ؛ حكى لي صديقنا المشترك الأستاذ الدبلاني الذي كان ينادمه ، أن شكري كان سخيا وأجود ما يكون عندما تكون جيوبه ممتلئة . وعندما يتلف ماله كله ، يضطر للاقتراض من أصدقائه مبالغ زهيدة بالقدر الذي يفي بحاجته إلى الشراب والأكل ؛ وبمجرد توصله بريع كتبه المترجمة يبحث عن مقترضيه واحدا واحدا ويسدد لهم ما بذمته ، وكان إنسانا رائعا عندما تبلغ الكأس منه موطن الأسرار ويقول لها قفي !
 وحكى لي صديقي الأستاذ محمد المساري ، أنه زار مكتبة مجلس الشيوخ بمدريد في يوليوز 1992 في مهمة تربوية ،وأثارت انتباهه رزم من الأوراق المستنسخة وقد رصت على منضدة طويلة، تمعن فيها  فإذا هي كتاب الخبز الحافي لمحمد شكري. فلما سأل المسؤول  عن المكتبة عن داعي استنساخ هذا الكتاب أجابه أن من عادة المكتبة أن تقتني أجود الكتب وأكثرها وقعا وتوزعها على أعضاء المجلس،  وبما أن الرواية نفدت من السوق والمؤسسة لا تتوفر إلاعلى نسخة واحدة فإنها اضطرت إلى استنساخها تلبية  لالتزاماتها مع الأعضاء، بالرغم من أن القانون الإسباني صارم في منع  استنساخ الكتب.

اقترح عليهم السي محمد المساري أن يتصل بشكري بعد عودته إلى طنجة ويطلب منه أن يزودهم بنسخ كافية إن كانت متوفرة لديه. عاد المساري إلى طنجة ، واتصل فعلا بصاحب الخبز الحافي ،  واقترح عليه أن يرسل نسخا إلى مكتبة المجلس عن طريق القنصلية، وهي ستتكفل بإرسالها عبر الحقيبة الدبلوماسية وستؤدي ثمنها مضاعفا. قال شكري إن لديه ما يطلبونه ولكنه رفض رفضا باتا أن يبعث بها إليهم.  وقال له بلهجة طنجية غاضبة : (هادوك شفارة ، كلاوني في حقي ، والله يماهم لا شافوا نسخة…) 
هذه شهادات لصالح شكري ، تنفي عنه البخل ، والراجح أن با ادريس ينزل ضيفا عند شكري في أيام نحسه ، فيكتفي معه بدور المرشد السياحي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top