من وحي قارب بني بوفراح ـ الحلقة الثانية

كان والد أبي العيال رحمه الله متعلقا بالريف ، فلا يكاد يقضي سنة أو سنتين في تطوان حتى يشتد حنينه إلى بني بوفراح ، فيترك دكانه ويسافر إنْ لوحده أو مع الأهل.

ازداد أبو العيال في تطوان ، وعندما بلغ الثالثة من عمره ، قرر المرحوم العودة إلى أرض الأجداد ، تكون العودة عادة مرتبطة بمواسم الخصب ، و طبيعة ب.ب. يغلب عليها الجفاف ، فقد يجود موسم بالخصب وتعقبه مواسم شداد يقل فيها الزرع والضرع ، فيعود السيد الوالد إلى دكانه في تطوان،ومسكنه في حي باريو مالقة،الحي الذي خلده الصديق الدكتور محمد أنقار في روايته ( باريو مالقة)   .

رجعت العائلة إلى البيت الريفي الفسيح ، واشترى السيد الوالد بقرة وحمارا ، و صار أبو العيال مشروع فلاح أو فقيه من حفظة القرآن إن أفلح في حفظه .

كان الوالدان شديدي الإيمان بالكرامات ، التي يتمتع بها الأولياء، الأحياء منهم والأموات ، فما أن استقر بنا المقام في ب. ب. حتى شددنا الرحال إلى ضريح سيدي مالك . لا يعرف أبو العيال موقع هذا الضريح ، ويظن أنه في قبيلة بقيوة جارة ب.ب. لأننا انتقلنا بالدواب؛ عندما دخل الوالدان لأداء طقوس الزيارة ظل الطفل أبو العيال يلعب في صحن  الضريح ، فإذا به يعثر على قطعة خشب أنيقة زخرفت بعناية ، علم فيما بعد أن طلبة الضريح الذين يحفظون القرآن يستعملونها في دك ألواحهم من أجل حفظ  آية استعصت عليهم ، ولها تسميات مختلفة ، فتسمى عند البعض : الحنّاشة ، وعند آخرين الكرار ، والدلاك . المهم أن السيدة الوالدة تفاءلت بهدية سيدي مالك ، وقالت مبتهجة : ( آ الحبيب ادريس ديالي ماشي يقرا لي ! )

ولم تقتصر زيارة الوالدين على الأموات ، بل كانوا يتبركون بالأحياء أيضا ، فكان الوالد رحمه الله يستشير سيدي محمد بن ناصر كلما أقدم على اتخاذ قرار حاسم ، وقد رافق أبو العيال والده إلى الزاوية الناصرية مرتين أو أكثر ، وفي كل مرة يعود بخبزة تسلمها له الزاوية، الخبزة على الحقيقة وليست مجازا ، هي خبزة صغيرة مثل الخبزة التي كانت والدته تؤثره بها كلما طبخت الخبز في فرن المنزل ( أينور ) .

لقد رزئت أم أبي العيال في عدد كبير من إخوته ، ولهذا كانت تتمسك بخيط أمل مهما كان خرافيا كي يحفظ الله لها أبا العيال وأخته الصغرى ،وخلال مقامها في تطوان كانت تداوم على زيارة ضريح سيدي طلحة . كانت جوانب الضريح مخصصة لدفن أطفال الحي ، وهي بزيارتها للضريح كانت تترحم على أبنائها ، وتتبرك بسيدي طلحة ؛   وقد علم أبو العيال فيما بعد بأن سيدي طلحة هذا هو المجاهد طلحة الدريج ،الجد الأعلى لصديقه وابن حيه الدكتور محمد الدريج ، رجل التربية الذي يثني عليه كل خريج .

كما كانت رحمها الله عند حلول يوم عاشوراء تشتري أكوابا طينية كثيرة وتتصدق بها على أطفال الحي ، معتقدة أن أبناءها سينتظرونها في الجنة ويسقونها من تلك الكؤوس

الحظ كان بجانب أبي العيال ، ومصائب قوم عند قوم فوائد ؛ مرت سنتان أو ثلاث ، فإذا بالموسم الفلاحي يتعثر ، وبدأت الحياة تتكدر ، ورجع الوالد إلى تطوان ولم يتأخر .

كان هذا سنة 1954 ، ودخل أبو العيال طالبا إلى كُتّاب الفقيه الغماري ، يتذكر من جملة من مر بالكتاب  الصديقين الأستاذين محمد أنقار وإخوته ، ومحمد الردام ( العروسي سابقا) وإخوته ، وصديق الطفولة أحمد مسعود .

مرت السنتان في الكتاب بسرعة،وتعلم أبو العيال القراءة والكتابة ، وحفظ الجزأين الأخيرين من كتاب الله .

فإذا بالناس يبتهجون  بالاستقلال ابتهاجا ، ورحل المستعمر أدراجا ، ودخل الأولاد المدارس أفواجا ، وصار لطلب العلم رواجا.

سجل الوالد ابنه أبا العيال في مدرسة سيدي المنظري ، وأخت أبي العيال في المدرسة الملكية للبنات ، ومنذ ذلك التاريخ لم يجرؤوا على مغامرة الرجوع من أجل السكن في ب.ب. واكتفوا بالعطلة الصيفية ؛ ولا زالت أحداث كثيرة منقوشة في ذاكرة أبي العيال التقطها بالسماع أحيانا ، وبالعيان أخرى ، وسيحاول سردها في حلقات تترى .

والصورة لأبي العيال الواقف الوحيد من الأطفال صيف سنة 1957 وقد انتقل  من القسم التحضيري إلى الابتدائي الأول بامتياز كما حدست المرحومة من حناشة سيدي مالك . والصورة تخليد ليوم العنصرة ، الموسم الذي كان يقام في قرية المضيق ، وينزل التطوانيون من المدينة والقرويون من قراهم ويحتفلون بذلك اليوم احتفالا رائعا ، ويقال إن الاحتفال بالعنصرة هذه كانت عادة أندلسية ، واسمها (عيد النصارى) ،وهو فعلا عيد يحتفل به النصارى واليهود ، كل يفسره حسب معتقده  ؛ وكان  المسلمون واليهود يشاركون النصارى في عيدهم يوم كان التسامح والتعايش في الأندلس ، ولما طرد المسلمون واليهود من الأندلس ظلوا متشبثين باحتفالهم، ويعتبره المسلمون ـ عن وعي أو غير وعي ـ فلكورا خاصا بهم ؛ وما أحوجنا لمثل هذا التعايش !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top