من وحي قارب بني بوفراح ـ الحلقة الثالثة

تقع قبيلة بني بوفراح على الشريط المطل على البحر الأبيض المتوسط ، مثلها مثل بني ورياغل وبقيوة وقلعية ، وغيرها ، ونظرا لموقع هذا الشريط الاستراتيجي ، فإن القبائل الموجودة عليه شكلت سدا منيعا ضد الغزو الأجنبي ؛ فقد كانت تزاول الجهاد البحري الذي اعتبره الأوروپيون قرصنة ؛ وتحكي كتب التاريخ أن الريفيين هاجموا سفينة ألمانية واستولوا عليها سنة 1852 ، وبعد أربع سنوات جهز أمير ألماني فرقاطة كي ينتقم من المغاربة ، لكن المغاربة هزموا الألمان وقتلوا أميرهم عند مرفإ تريس فورخاس Tres forjas سنة 1856 . وليست هذه أول مرة ينهزم فيها الألمان أمام المغاربة، بل سبق لهم أن انهزموا في معركة وادي المخازن عندما ساعدوا البرتغاليين بثلاثة آلاف مقاتل قتلوا جميعهم سنة 1578 . كما ساعدت پروسيا إسپانيا في حرب تطوان 1860  .

لقد كان الأوربيون إلى حدود هذا التاريخ متخوفين من الإمبراطورية المغربية ، فكانوا يتضامنون ويتفقون سرا وعلانية ضد المغرب العظيم ؛ ولكن بعد حرب إسلي سنة 1844 وتطوان 1860 انكشف أمر المغرب ، وازدادت أطماعهم فيه . ولكن أبطال الريف لم يستسلموا وظلوا يقاومون الدخلاء إلى أن تكتلت الدول الاستعمارية الثلاث ، فرنسا وإسپانيا وألمانيا ، هذه الأخيرة هي التي زودت إسپانيا بالسلاح الكيماوي الذي استسلم على إثره أبطال الريف ؛ لكن قبل استسلامهم ، كانت لهم صولات وجولات مازال جبل أكركور شاهدا عليها .

يقع جبل أكركور في قبيلة بني بوفراح ، يبعد عن الشاطئ بعشر كيلومترات تقريبا ، وعندما يكون أبو العيال في منزله الريفي ، يبدو هذا الجبل شامخا ، وينطبق عليه قول ابن خفاجة :

وقـور على ظهر الفلاة كأنــه ***   طوال الليالي مفكر بالعـواقِبِ

يلـوث عليه الغيم سـود عمـائم***   لها من وميض البرق حمر ذوائبِ

أصخت إليه وهو أخرس صامت ***    فحدثني ليل السـرى بالعجـائب

هو في الحقيقة ليس جبلا بالمعنى الجيولوجي ، ولكنه هضبة عالية ، يتذكر أبو العيال خلال زياراته لبني بوفراح أن هذا الجبل كان أخضر اللون لأنه مجلل بغطاء نباتي أغلبه أشجار صبار .

من مآثر هذا الجبل أن ابن عبد الكريم الخطابي اتخذ منه معتقلا يطلق فيه سجناء الحرب الإسپان إلى أن تضع الحرب أوزارها . ويحكى أن السجناء وجدوا في التين الشوكي الشهي ضالتهم واتخذوه طعاما ، كما أن الأهالي لم يبخلوا عليهم بالمساعدة ، فكانوا يهيئون لهم الطعام ، ويعاملونهم معاملة إنسانية تطبيقا لتعاليم ديننا الحنيف الذي يشيد بالذين ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا )  صدق الله العظيم .

ومن ذكريات أبي العيال التي حفظها كلازمة لكثرة تكرارها على مسامعه ، أن والده رحمة الله عليه عاش يتيم الأب ، وعند قيام ثورة ابن عبد الكريم كان الوالد في الثانية عشرة أو نحو ذلك ،وكان القائد قد فرض التجنيد الإجباري على كل الريفيين ، وهكذا استدعي الوالد لأداء الخدمة العسكرية ، وانتزع الطفل من بين أحضان أمه التي لم تجد من يرده  لها ، وهكذا نستنتج أن بعض العقليات كانت تكيل بمكيالين .

ذهب الطفل إلى ساحة القتال ، ونام في المعسكر ، وذات صباح خرج باكرا من خيمته ، فإذا به يجد بندقية قد تكون لإسپاني تركها وأطلق ساقيه للريح ، أراد الطفل أن يحمل البندقية فوجدها ثقيلة فعمد إلى جرها ؛ ومن الصدف أنه مر أما القيادة العامة ، وشاهده السي مَحمد بن عبد الكريم الخطابي ( أخ القائد الأعلى) سأل القائد : ما شأن هذا الطفل ؟ فاستدعوه وعرفوا منه أنه من بني بوفراح ، وأنه يتيم ، فكتب له القائد قرار إعفاء من الخدمة العسكرية لصغر سنه ، وأرجعوه إلى أمه .

كم يتلهف أبو العيال أن يحصل على هذه الوثيقة ! ويؤكد بها هذه الحقيقة ، ويعتز بأجداده المقاومين بالسليقة !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top